أتذكر وأنا في قاعة الدرس الجامعي بإحدى محاضرات مادة النقد الأدبي الحديث بجامعة تعز في منتصف الثمانينيات من القرن السابق.. جملة قالها لنا الدكتور مدرس المادة حينها في معرض حديثه عن الإبداع في شعر شاعر اليمن الكبير المرحوم عبدالله البردوني حيث قال “ليس بمقدور أي ناقد أدبي أو محلل فني أن يحصر شعر هذا الشاعر الاستثنائي بزمان معين أو مكان معين لأنه أي البردوني جواب كل العصور كما جاء في معنى كلام الدكتور رعاه الله وهذا ما يشير إلى أنه من الغُبن أن نحبس أنفاس القصيدة البردونية في إطار فضاء محدود لأنه شاعر بحجم آلاف السنين.. وهنا تكمن في اعتقادي “عظمة الإبداع” الذي يجعل من مبدعه خلاقاً يصنع من لحظة الميلاد للتجربة / النص / القصيدة / يصنع منها زمناً بعمر امتداد الأجيال والأوطان. وحول عظمة الإبداع لدى هذه القامة الشعرية اليمنية العربية “البردوني” أسعقني صديقي الشاعر عبدالله محمد منصور بأبيات ثلاثة من إحدى قصائد الشاعر المنشورة ضمن ديوانه “جواب العصور” ليقول لي صديقي من خلال تلك الأبيات : “هل لا يزال البردوني حياً بيننا يعيش تجربة الوطن اليوم إن عظمة الإبداع لدى الشاعر من استطاعت أن تجعل من تجربته إبان ميلاد القصيدة تجربة وطن ممتدة ملء فضاءات روحه الخلاقة لتستوقفنا أبياته تلك معه على مشارف واقعنا الحالي. عبر أنفاسه الشعرية التي لا تكتفي بالوقوف على أطراف الواقع الحالي بل تحملنا على بساط أبجدياتها المخملي إلى أعماق ذلكم الواقع فيبدو من خلالها البرودني لسان حالنا اليوم ونحن كشعب ووطن نعيش المواجهة الحامية الوطيس مع العدو القديم الجديد للوطن والمواطن بإرادة وطنية شجاعة ومؤمنة إيماناً راسخاً بأن الوطن أغلى وأن الشعب اليمني الأصيل لن يقبل الضيم ولن يستسلم لأعدائه المتوحشين مهما كان الفارق واسعاً في موازين القوى لأنه شعب يصنع من عذاباته انتصاراً كما يقول البردوني: “لا ألاقيك بالقتال فهذا فوق حجمي ودون حجمك قتلي إنما لن أقول للبيت رب أنا بيتي ورب بيتي وإبلي تملك اليوم عجن أمري ولكن سوف يعييك آخر الأمر أكلي” فبأي لسان يتحدث البردوني في هذه الأبيات؟ أليس بلسان حال الشعب اليوم الذي برغم كل معاناته التي يتجرع مرارتها من سعير الأزمة الفارقة في تاريخ بلادنا المعاصر، ومن هو المخاطب في الأبيات السالفة الذكر أليس العدو الأخطبوط الذي يتجرد من كل القيم ويمارس كل الموبقات في حق الشعب لدرجة ممارسة القتل الحرام بشتى أنواعه وأشكاله وعيون البردوني لم تزل ترصده حتى يومنا هذا وسوف تبقى كذلك برؤى أبياته التي لم تنطفئ وإنما تزداد توهجاً كلما أزداد العدو غروراً، وبصوت هذا الشعب/ المواطن/ الأصيل الذي يعشق هويته ويؤمن بواجبه تجاه نفسه وأرضه وحياته وتاريخ وطنه العريق يقرر البردوني ألا قوة تسطع قهر إرادته مهما توافرت لذواتها الأنانية القدرة على العبث بيوميات حياته وعجنها لأن المصير هو النصر المحتوم فإرادة الله مع الحق والخير والعدل والسلام وضد الباطل وأهله أعداء الأوطان والشعوب.. تلكم كانت قبساً من عظمة إبداع هذا الشاعر الكبير والمبدع رحمه الله..