باتفاق الجميع، فإن السينما والإعلام ومجال الفن بشكل عام من أفضل الوسائل وأكثرها تأثيرا في الناس في عصرنا هذا. وباتفاق الجميع أيضا فإن الإسلاميين غائبون عن هذا المجال تماما، فهو سلاح مفقود في معركتهم الإصلاحية.. وباختلاف الجميع يتم الحديث عن الأسباب والعوامل التي صنعت هذا، ثم باختلاف الجميع تختلف الرؤى والآمال والطموحات عن إمكانية دخول هذا المجال وفائدته والتأثير فيه. وباتفاق الجميع –أخيرا- فلا وجود حتى لحظة كتابة هذه السطور لفقه إسلامي يعالج مسائل الفن ومجالاته المختلفة وخصوصا الأفلام والمسلسلات. لكن المجتمع الذي تجتاحه صحوة إسلامية لا يكاد يفلت أحد من تأثيرها، ولا حتى أعداؤها، تطور إنتاجه الفني تبعا لهذا التأثير، حتى أنتج أعمالا هي أقرب لواقع هذه المجتمعات وروحها وتطلعاتها كذلك، ولاشك أن الثورة الإعلامية الحديثة دفعت بهذا التطور إلى الإمام بشكل متسارع، فلئن كان النمو في هذا الاتجاه المعبر عن روح الشعوب ونبضها الحقيقي يسير متباطئا حتى أواخر التسعينيات، فإن بداية الألفية الثالثة شهدت كثيرا من القفزات الهائلة على هذا المسار. وبعد أن كانت حركة السينما متوقفة حتى منتصف التسعينيات تقريبا عند أفلام “اللحم العريان” لمن أطلق عليهن “معبودات الجماهير” اللاتي لم يقتنعن بأنهن صرن عجائز، بدأت موجة من الأفلام الكوميدية الضاحكة التي لم تعد تهتم ب “المناظر” وإنما اهتمت إلى حد مقبول ب “القصة”. ربما يمكن أن يؤرخ لهذه الموجة بفيلم “إسماعيلية رايح جاي” وبطله محمد هنيدي الذي تألق سريعا، وتألقت معه مدرسة الكوميديا في “صعيدي في الجامعة الأمريكية”. وعبر الفيلم عن روح الناس في مصر حين لمس وبوضوح مسألة السياسة في الجامعات، وكذلك مسألة الكره الشعبي المصري لإسرائيل، وأحرق في الفيلم علم إسرائيل. صحيح أن هذا لا يبدو الآن شيئا عظيما، ولكنه بدا نقلة كبيرة في “سنوات السلام”. في الفيلم الثاني لهذه المدرسة “همام في أمستردام” كان هنيدي يطرح مشكلة البطالة في الوطن العربي، والهجرة إلى الدول الأوروبية، ولمس الفيلم أيضا، وبوضوح مسألة الصراع العربي الصهيوني. ثم خط أحمد السقا خطا خاصا به في أفلام الإثارة الحركية، فيما بدأ انحدار جماهيرية هنيدي، وإن كانت مدرسة الكوميديا نفسها تسير في الصعود والانتشار. في هذه المرحلة اختفت مدرسة “اللحم العريان” وكأنها لم تكن تحتاج إلى إلا لمسة واحدة لتنهار، وهاجرت “معبودات الجماهير” إلى التليفزيون الحكومي ليصنعن مسلسلات لم تخل في عمومها من عروض جسدية أيضا ولو بالملابس فقط. حتى عادل إمام “الزعيم” انهار تماما أمام صبي يافع خرج لأول مرة إلى عالم الشهرة، محمد سعد وفيلمه المفاجأة “اللمبي”، وكان فيلم عادل إمام وقتها “أمير الظلام” كالكسيح أمام فيلم “اللمبي” ما استدعى أن يتدخل عادل إمام بعلاقاته الصحفية لتُشن حملة ساحقة على محمد سعد تحت عناوين “سمعة مصر” (في السينما كما في السياسية يُرفع قميص “سمعة مصر” لإنقاذ الفاشلين). وكانت الحملة من وجه آخر، وبشكل علني أو خفي تتباكى على الفن الراقي، وعلى سمعة الشباب المصري التي دمرها اللمبي. وحقيقة الأمر أن “اللمبي” ليس إلا تطويرا عصريا للفلاح الساذج أو الذكي الذي ظل شخصية لا يمل عادل إمام من تمثيلها، ولا خرج له من تباكى على صورة “الفلاح المصري الأصيل”. *** لاشك أن المسار ليس صاعدا تماما باتجاه الإصلاح أو السينما النظيفة، بل إن المسار متعرج شديد التعرج، غير أننا نقارنه بمسار منحدر كان من قبله. أفلام المؤلف بلال فضل مثلاً تعتبر أنموذجاً مثالياً للكاتب الحر الشريف الذي يحاول أن يقدم سينما تلبي رغبات المنتجين وتقدم في الوقت ذاته حقيقة الواقع المصري، أو طموحات الكاتب الشخصية للإصلاح. بعض أفلامه نجحت باقتدار، وبعضها الآخر فشل باقتدار –كذلك- ولكن التألق بلغ ذروته في فيلمي (واحد من الناس) الذي تعرض لسطوة رجال الأعمال وفساد السلطة في مصر، و (خارج عن القانون) الذي ناقش نفوذ تجار المخدرات وفساد السلطة أيضا. أما أفلام الإثارة الحركية التي صار يتقاسمها أحمد السقا وأحمد عز، فهي إلى الآن، ومن وجهة نظري غير واضحة المعالم، فهي أحيانا تمس الواقع المصري بصدق كما في فيلم (تيتو) أو (الجزيرة)، ولكنها تسرح في أجواء بعيدة أحيانا، أجواء أقرب إلى الروايات البوليسية، لا إلى الواقع كما في أفلام (ملاكي إسكندرية) و (مسجون ترانزيت). لكن الملحوظة المهمة أن هذه الأفلام صارت تقدم قصة محبوكة وممتعة درامياً، بغض النظر عن تلامسها مع الواقع أو رسالتها الفنية (إن كان لها رسالة).. في حين تعبر موجة أفلام كوميدية عن فوضى المجتمع المصري، أو عن الهم الذي يتشوق للتنفيس عنه. وفي الحقيقة قد تعبر عن حاجة لدى الشعب لا أستطيع تحليلها ولا إدراكها، وشخصيا فإني من المؤمنين بأن التحليل السطحي للشعب هو عمل مغرق في الخطأ، ودائما يظل عند الناس شيء مجهول. هذا الشيء هو الذي يجعل ما يُتوقع له النجاح قد يفشل فشلا ذريعا، أو قد يحقق أرقاما لم تخطر ببال. الشعوب دائما –في حركتها التلقائية- تفاجئ صناع السياسية والفن بما لا يُتوقع. إن كثيرا من الأفلام التافهة تماما تحقق كثيرا من النجاح، أهمها أفلام محمد سعد الأخيرة، وكذلك أفلام محمد هنيدي ولا سيما فيلمه التافه قبل الأخير (رمضان مبروك أبو العلمين حمودة). وبعض أفلام أخرى على هذا النمط من التسطيح والتفاهة والقصة الرديئة. مسار آخر في الأفلام، ما زال ضعيفا، يقوده كاتب السيناريو تامر حبيب، وربما هو وحده في الساحة على ما أعلم، وهو مسار الأفلام الرومانسية، التي تناقش “الحب” ولكن بعمق حقيقي، في رأيي كان أبدع أفلامه هو “سهر الليالي” وإلى حد ما “عن العشق والهوي” وأيضا “تيمور وشفيقة”. ويبقى مسار آخر وهو مهم ومتميز جدا، وهو مسار المخرج خالد يوسف، ونوعية الأفلام التي يقدمها خالد يوسف جميعها واقعية فعلا، وقصتها محبوكة وممتعة على المستوى الفني في غالب الأحيان، غير أنها وإن رصدت واقع المجتمع المصري إلا أنها لا تتوقف عند الرصد كما تفعل الأفلام الأخرى، بل هي تطرح الحلول من طرف خفي. ولطبيعة خالد يوسف وتوجهاته الفكرية، وهو تلميذ يوسف شاهين بالطبع، فلا مناص من أن يكون الحل المطروح رافضا للدين، ولا مناص أن يكون الإسلاميون حاضرين دائما في خانة أعداء الوطن وأعداء الحرية، وفي خانة سبب التخلف أيضا. وهذه النوعية من الأفلام واقعية في كل تفاصيلها إلا في أمرين: ما يخص الإسلاميين، وما يخص الجنس. فهي تستدعي الإسلاميين قسرا (أو المبادئ الإسلامية نفسها) لتهاجمها حتى ولو كان السياق يمكن أن يستقيم من دونها. وأحيانا وصل مسار خالد يوسف إلى درجة بالغة الخطورة في فيلم (الريس عمر حرب) إذ بدا وكأنه يطرح فكرة أن الدنيا صالة قمار وأن الإله هو مدير هذه الصالة وهو الذي يتحكم في أدق شئون أفرادها الذين يعملون جميعا كخدم له. وفي الجنس، فما زالت هي الأسخى في إعطاء جرعات لا مبرر لها من المشاهد المخلة، ويمكن في سياق الفيلم الحريص على الواقعية والتفاصيل أن ترى الفتاة الصعيدية تمشي في الشارع مكشوفة الصدر كما في (دكان شحاتة)!!! ولا تسأل في نقطة الجنس تحديدا عند خالد يوسف عن الواقعية أبدا. *** المسار الأهم وهو الذي قصدت الكتابة عنه في هذه السطور، هو ظهور بضعة أفلام يصلح أن تسمى “سينما إسلامية إلا خمسة”، هذه الأفلام هي تعبير حقيقي عن أثر الصحوة الإسلامية في قطاع صانعي هذه الأفلام.. وهي أفلام ينبغي أن ينتبه لها الإسلاميون جيدا، فهي تجربة يتوجب ملاحظتها أولا ثم الاستفادة منها في كل الأحوال، كما يتوجب تصحيحها أو رعايتها أو دعمها من بعيد. إنها تبدو مبشرات ضرورية، وأهم من ذلك أنها تمثل التفاعل الطبيعي مع ما يموج به المجتمع من قيم متضاربة وظروف ضاغطة، وكذلك من أثر إسلامي فيه. وهي انعكاس تلقائي للنبض الإسلامي لم يُسهم فيه أحد من الإسلاميين أو الدعاة بشكل مباشر. ولعل الله أن ييسر فنلقي ضوءًا على هذه التجربة، وكيف ينبغي تنميتها والبناء عليها. ولعلها تكون بذرة لفقه إسلامي فني معاصر، كما لعلها تكون نزولا للإسلاميين إلى هذه الساحة البالغة التأثير والفعالية والمتروكة حتى الآن لغيرهم.