يعرّف الفن بإحدى تعريفاته بأنه الخلاصة الحسيّة الجميلة للتجارب الجمعيّة للمجتمعات الإنسانيّة. وإن هذه الخلاصة الفنيّة هي ثمرة النضج الفكري والثقافي والعلمي للمجتمعات، ولمّا كان الفن هو نتيجة لازدهار الفكر الإنساني، فإن انحطاط وتردي الفكر الإنساني والثقافي يؤدي إلى حالة «اللافن» أو انعدام الفن، أو ما يسمّى بالفن الرديء، وهو ما يطلق عليه اليوم في صحرائنا الفنيّة على وجه العموم «الفن». وإنّ حالة الانحطاط الفنّي التي نعيشها اليوم في المجتمعات العربية قد لاقت رواجها بشكل كبير عند العامة، وذلك بسبب تردّي الفكر بشكل أساسي، وتدهور الذائقة الفنية بشكل كبير، والاندفاع الأعمى وراء كل ما هو جديد أو مطوّر أو مصدّر إلينا من مصادر أجنبيّة، وانتشار ثقافة «القطيع» بحجة أن الجمهور الحالي يريد ما يناسب عصره، عصر السرعة.. وهذه الأسباب السابقة أدّت إلى تدهور «الشعب العربي»، ثم إلى انعكاس في المفاهيم وانعدام في الذوق. فأصبح الفن هو الوسيلة وليس الغاية، والسؤال المهم هنا: إذا كانت خلاصة النتاج الفكري والحسي للبشرية هي وسيلة وليست غاية...! فما هي الغاية الأسمى من تلك الوسيلة....!؟ فقد وصلنا إلى حالة تغيُّر في سلّم الأولويات الإنسانيّة، مما أدى إلى تغيُّر في سلّم الأخلاقيات، ثم إلى تغيُّر في سلّم الحاجات الفكريّة والحسيّة والجماليّة. وبذلك ارتبط الفن بالنزوات والهوى، وأصبح الإسفاف من السمات الأساسية للمشهد الفنّي على الساحة العربية، فأصبحت الموسيقا والغناء تُسمع من الأرجل في أفضل حالاتها، أما في أسوأ حالاتها فهي تعبّر عن الانحطاط الخُلُقي قبل الفنّي، وما تردي الأغنية إلا نتيجة لتردي الكلمة المغناة، فأصبح الفن أداة تسويقية. ولكن لمن...!؟ ومن الذي يحتاج لمثل هذه السلعة الرخيصة....؟ ولماذا يحتاجها...؟ ومن هي الأيادي الخفيّة التي تقف وراء هذا التدهور...؟ ولماذا لها كلّ هذه السطوة والتأثير...؟ أليس للفن العربي جذور فكرية وثقافية أصيلة، أليس للفن العربي مصادره الحضارية بعيداّ عن كل من هو سطحي...؟ وهل الابتعاد عن تلك المصادر هو السبب وراء الواقع الفنّي الذي نعيشه...؟ أم أن تسخير الأيديولوجيا للفن يقف وراء كثير مما نشهده حديثاً من مغالطات، فنيّة في ظاهرها وتبعيّة في باطنها. وأين هم أصحاب الفن العربي الأصيل من كل هذا...؟ أم أنهم أنفسهم ضحية لهذا الواقع..؟ ومع أننا نلاحظ أن هذا الجمهور ذاته لا يزال يقبل على الأغاني القديمة مثلاً»، ولو بصيغها المخففة، مع التحفظ الكثير على هذه المحاولات. هذا الموضوع يقودنا إلى التجريب الذي أصبح مطية لكل جاهل. ونحتاج بكل تأكيد للتجريب الفنّي، ولكن ضمن أصول معترف عليها، ولا أعني بالأصول القواعد، لأن القواعد ليست مقدسة، بل أفكار وتجارب مستندة على أرضية صلبة تكون الثقافة الفنية أهم أركانها. كما نلاحظ في الآونة الأخيرة اتجاه «كبار» الفنانين العرب إلى أساليب التسويق الرخيصة، فأصبحت ثقافة «الفيديو كليب» متأصلة بين الأوساط الفنيّة، وناهيك عمّا يلحق بالفيديو كليب من استعراض رخيص ومبتذل، بحجة حرية التعبير أو حرية الرأي، وأنّ كلّ ممنوع مرغوب.....!!!! والظاهرة الأحدث كانت اتخاذ بعض الموسيقيين الفيديو كليب طريقة لتسويق موسيقاهم «البحتة أو الصرفة»..!.. ومما يثير الجدل، الفن الحقيقي لا يحتاج إلى تسويق؛ إذ أنه يشق طريقه إلى الروح مباشرة دون وسيط، ولكن التعامل مع الرخيص كثقافة راهنة، واعتبار التردي والانحطاط هو واقع طبيعي، هو ما يثير الإحباط مع من يحاول النهوض بالفن العربي وإعادته إلى مساره الأصيل مرة أخرى.