ولما بين الله واحدية الرسالة التي مضمونها الإسلام ورمز للشجرة الموحدة بالنبي إبراهيم، وكل ما تفتق عنها من براعم فهم ضمن هذه الدوحة المباركة، “إن الدين عند الله الإسلام”، “ ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب، إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون”. وقد طلب الله من أهل الكتاب ألا يتخلوا عن ما أُنزل إليهم، بل طلب منهم إقامة التنزيل المقدس، ليس لشيء، إلا لأن كل ما تنزل على مجموع الرسل واحدٌ، وما جعل المنهاج والشرعة في تفاوت إلا لحاجة الناس الماسة للتغيير الذي يطأ على مضمار الحياة المتجددة، فيأتي نبي يحل بعض ما حرم عليهم لاقتضاء الحياة المعاصرة لذلك، وأعلم أن التحريم الذي أحله نبي ما لقومه ومعاصريه، لم يكن إلا في الجزئيات التي تشدد فيها أتباع النبي السابق إما ابتداعاً كالرهبانية وإما عنتاً وعناداً كالتحريم في الأكل والذبيحة، وإما لجاجاً، ككثرة الأسئلة والبحث عن تفاصيل هم في غنى عنها، قال تعالى: “كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه”، “ وعلى الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم” وهكذا، أما الذكر الموحد، فإنما جاء تصديقاً لما بين يديه حلاَّ وحرمة، الأمر الذي قاد كثيراً من أهل الكتاب لتحليل الكبائر حين وجدوا وحدة الأنبياء جميعاً في شرعتها، فلجأوا إلى كتابة الكتاب بأيديهم وليروجوا لبضاعتهم الكاسدة، وادعوا شرعيتها بل وأن الله أمرهم بها، وهذا ليس في طريق بحثنا. قال تعالى: “قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوارة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم، وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً..” وما دامت الدوحة واحدة فاللسان واحد، وهكذا فهم أهل الكتاب مخاطبتهم في الكتب المنزلة وعبر الرسل الذين أرسلوا إليهم سواء من قتلوهم وآذوهم، قال تعالى: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم} وواحدية الذكر والكتاب أمر محسوم “ وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه...ثم آتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن وتفصيلاً لكل شيء ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون، وهذا كتاب أنزلناه مبارك.. أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين، أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم.”..” {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر..} {وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر..} بل يورد القرآن نصوصاً هي في سابق من الكتب: {وإنه لفي زبر الأولين} {إن هذا لفي الصحف الأولى، صحف إبراهيم وموسى} {أم لم يُنبأ بما في صحف موسى، وإبراهيم الذي وفى} فأما إعراض أهل الكتاب عن عالمية الرسل فخوفا من الاعتراف بعالمية خاتم الأنبياء والمرسلين، وهو داء انتقلت عدواه إلى بعض المسلمين، فحوّروا نصوصاً عن فحواها، ووضعوا قيوداً على غير مغزاها، فلحقوا بركب من سبقهم، رغم التحذير القرآني.