كيف للشعر أن يرثي صاحبه وكيف للحروف أن تحمل نعش كاتبها إلا إذا كانت تلك الحروف وذلك الشعر قد تداخلا في روح الشاعر فأضحت جزءًا من تكوينه العام, وبينما أقف بين نص مؤثر من نصوص هذا العصر الذي حمل إلينا شعراء كبار غيبتهم الأيام وذهب بهم الضوء خارج دائرة الشهرة، لكن حروفهم كانت ومازالت وستظل تضيء للأجيال معانيها السامية. فها هو الشاعر الكبير محمد عبدالقوي ناشر يكتب رثائيته بأحرف من عتاب وحبر من دموع في سرد شعري تشعر فيه بالألم وتعيش من خلاله مع ذكريات اختزلها الشاعر في ستة وثلاثين بيتاً من أروع ما كتبه قلبه الكبير: سلمتم رفيقيّا وسلمت يداكما فمن حيث لا أدري نكأتم جراحيا ........ تجوبان أحشائي ذهاباً وأوبةً وأنفاسكم كالجمر تشوي فؤاديا لقد عاصر الشاعر عدداً من رفاقه الذين عاشوا معه وعاش معهم فكانت هناك إخوانيات وطرائف لطيفة، لكنه في الوقت نفسه يسكب مأساة رحلته في زبيد بأنها النار التي اتقد بها في مسيرته العامرة بالوجع: قتلت بنار الصحب في ميعة الصبا فكم كبلوا خطوي وغالوا لسانيا قتلت وأغصاني تعج بأضلعي وفيها من الحسرات أضعاف ما بيا حقيقة لم أكن أفكر في الكتابة عن هذا النص القنبلة التي فجرها الشاعر في وجهي وهو يقرأه وأنا أسرد شريط الألم متأملاً عينيه اللتين كانتا تنفثان حرقةً وأسى وصوته المتحشرج بأنات الكبرياء ولغته الصامدة في وجهة المرض والموت: وما زلت رغم القتل أغشى لواعجي وآتي حياض الموت فرداً أحاديا لقد كانت لغة القصيدة المرثية تنعى حالة شاعر شعر بموته قبل أن تفارق روحه جسده، ذلك الشعور هو الشعور بالقتل المعنوي الذي لاقاه الشاعر عبر مسيرته الحافلة بالألم. وهنا نعود إلى التاريخ العربي فنجد أن هناك قصيدة مالك بن الريب الذي رثى نفسه بأجمل نصوص الشعر العربي فكانت هذه القصيدة ألماً من وحي الألم الذي تركته قصيدة مالك وكأن الشاعران شربا نفس الكأس فيقول مالك: اصاحبَي رحلي! دنا المَوْتُ، فَانزلا بِرابِيَةٍ ، إنّي مُقِيمٌ لَياليِا أَقيما عليّ اليَوْمَ، أو بَعْضَ ليلةٍ ولا تُعْجِلاني قد تبيّنَ ما بِيا وَقُوما، إذا ما استُلّ روحي، فهيِّئا ليَ القبرَ والأكفانَ، ثُمّ ابكيا ليا وخُطّا بأطْرَافِ الأسِنّةِ مضجعي ورُدّا على عَيْنَيَّ فضلَ ردائيا لكن الظروف التي دفعت مالك بن الريب غيرها الظروف التي أثرت على نفسية الشاعر محمد عبدالقوي ناشر. لكن نخلص أن الشعر هو التعبير الأمثل للمشاعر الإنسانية؛ فكان هذا القلب المتعب الذي حمل ناشر على امتداد عمره يشعر بذلك الأسى قبيل يوم من ولوجه غرفة العمليات إجراء عملية قلبه المتورع بفاجعات الزمن وخذلان الصحب. ومع ذلك فإن حس المرهف ناشر لم يستمر في ألمه فقد أخبرنا أنه مستمر في تحليقه بكل ما هو رائع وجميل: مررت بحلمات النجوم ولم أزل بكل شعاب الحسن كالطير شاديا لكنه الألم يحاصره وقلبه الذي يرثي جسده يخبره بما هو آتٍ إليه لا محاله في صورة مؤلمة لكنها الحقيقة التي حملت الشاعر على البوح: وغادرت لحداً لا يروق لعاشق لأدخل لحداً باتساع شتاتيا أعتقد أن قصيدة كهذه تحتاج إلى وقفات كبيرة وكثيرة من قبل النقاد، لكن حسب هذا الشاعر أنه استطاع أن يتسيد ناصية الشعر دون منازع على الرغم من خذلان الزمن الرديء لشاعريته، إلا أن نصوصه العامرة بالصدق والإبداع الحقيقي جعلت منه شاعراً متميزاً بامتياز. وحسب إشارات الشاعر الواضحة في النص فإن الانتقال المكاني ولد له حالة انتقال لعواطف وذكريات الشاعر الذي سكن زبيد وقلبه معلق بمسقط رأسه تعز التي يروي لنا قصتها بعد غياب طويل: أتيت إليها إذ شغفت بحبها وفي صدرها الوافي أنست ظلاليا وخلفت خلفي زهوراً تحبني تجدد بي الذكرى وتذكي خياليا أعتقد أن هناك مفارقات حياتية مكانية وزمانية أثرت في قلب الشاعر المنهك بضربات الزمن الذي قسا عليه حد القهر على الرغم من عطائه الكبير، لكن حينما قسا عليه قست عليه الطبيعة ومن عاش معه كفاح الأنس والمرارة أيضاً فولدت حالة الرثاء الاستثنائية في تاريخ الأدب العربي المعاصر: ولما أحست هيامي بسحرها أشاحت صدوداً وملت وصاليا تناست ليالي بت أسقي عروقها وأسقي روابيها شراباً زلاليا كأني لم أك يوماً بأحلامها فتى تفاخر بي الدنيا وتخشى زواليا إنها مفردات عفوية سلسة بسلاسة تجربة الشاعر صعبة في معانيها بصعوبة ومرارة التجربة التي حمل الشاعر معها هموم عمر بأكمله نعى فيها نفسه إلى حيث رجعة. ووفاءً منه لزبيد التي عاش فيها سني أيام عمره يمر بنا الشاعر مروراً حاداً على سيف الذكريات الذي جعل من أوردته تنزف حرقةً وحروفا: تزبدت والأشواق تعدوا بداخلي وترعى بأوصالي وتهوى قتاليا وهنا أتذكر قول الشاعر: إن تتهمي فتهامة وطني أو تنجدي يكن الهوى نجد. ووصولاً إلى منتهى رحلة الشاعر وتشييع حلمه الكبير وقلبه الذي أراد أن يرثيه يطالعنا برائعة أبيات هذا النص الذي يجسد ديمومة حياة الشاعر الحق وخلود حياته عبر حروفه مدى الأزمان، بل ويصف حال الأحياء الذين يعيشون للموت دون هدف ويموتون وهم على قيد الحياة: أسير ونعشي ساخران بما نرى وحشد من الأموات يجري أماميا .............................. وغادرت لحداً لا يروق لعاشق لأدخل لحداً باتساع شتاتيا دخلت وأكفاني صدور قصائد وإعجاز سحب يستظفن قوافيا ويأتي هتيني في نهود عمامة يرشرش أوصالي ويسقي ترابيا فلا تذكراني إن عزمت إلى العلى ولا تنعياني إن حفظتم وداديا حقيقة لقد كنت في تجربة مريرة وأنا أحاول الغوص في هذا النص المثقل بأحمال الزمن الصعب لسيرة كبير من كبار الأدب، لكنه جاء في زمن غيب فيه الكبار وتصدر المتسلقون على ناصية الحياة. لكني أجزم أن حروف محمد عبدالقوي ستظل شاهدةً على جيل بأكمله وعصر بكل مقوماته، وستبقى دواوين شعره منارةً حقيقة للشعر الذي يجب أن يتصدر المشهد الشعري العربي؛ لما له من تميز وخصوصية. وستبقى ذكرى محمد عبدالقوى عالقةً في قلوبنا ما تعاقبت الأجيال.. أعتذر للقارئ الكريم فقد كتبت حروفي وكأني به فعلاً قد واراه الأجل، لكني أتمنى له الشفاء العاجل والعمر الطويل.