حرب الهيمنة الإقتصادية على الممرات المائية..    "خساسة بن مبارك".. حارب أكاديمي عدني وأستاذ قانون دولي    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    رئيس الوزراء يوجه باتخاذ حلول اسعافية لمعالجة انقطاع الكهرباء وتخفيف معاناة المواطنين    عبدالله العليمي عضو مجلس القيادة يستقبل سفراء الاتحاد الأوروبي لدى بلادنا    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    جاذبية المعدن الأصفر تخفُت مع انحسار التوترات التجارية    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    عن الصور والناس    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    البيض: اليمن مقبل على مفترق طرق وتحولات تعيد تشكيل الواقع    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    غريم الشعب اليمني    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    منظمة العفو الدولية: إسرائيل ترتكب جريمة إبادة جماعية على الهواء مباشرة في غزة    تراجع أسعار النفط الى 65.61 دولار للبرميل    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    "كاك بنك" وعالم الأعمال يوقعان مذكرة تفاهم لتأسيس صندوق استثماري لدعم الشركات الناشئة    لوحة "الركام"، بين الصمت والأنقاض: الفنان الأمريكي براين كارلسون يرسم خذلان العالم لفلسطين    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    رئيس كاك بنك يعزي وكيل وزارة المالية وعضو مجلس إدارة البنك الأستاذ ناجي جابر في وفاة والدته    اتحاد نقابات الجنوب يطالب بإسقاط الحكومة بشكل فوري    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عيدروس نصر يرثي عمر الجاوي
نشر في الصحوة نت يوم 18 - 08 - 2011

مما يعرفه الناس أن الدكتور عيدروس نصر النقيب اليافعي سياسيٌّ معارضٌّ ومحنكٌّ وقليلون يعرفونه أديباً يكتب الرواية والقصيدة..وعيدروس مقلٌ في كتابة الشعر وله بعض يتيميات كتبها في مناسبات يتمٍ وحزنٍ.. ربما اشبه عيدروس نصرعبد يغوث الحارثي اليماني الذي لم يقل شعراً في حياته قط الا عند اسره على أيدي بني تميم حيث كان مسنوداً موثقاً الى جذع شجرةٍ وقد قطع وريده ثم قال قصيدةً هي الأولى والأخيرة في حياته.. وكلنا حفظ هذه القصيدة في صف أول ثانوي والتي مطلعها:
الا لا تلوماني كفى اللومُ مابيا *** فما لكما في اللومِ نفعٌ ولا ليا
(الا)- للعارفين بالنحو والبلاغة- أداة تنبيه لأمر ذي أهمية أو للتأكيد لما سأقوله، يعني أنبهكم لأمر هو أنه لا فائدة من اللوم ولا طائل، وهذه الأداة كثيراً ما رأيناها تسبق حرف التمني (ليتَ) كقول الشاعر:
الا ليتَ الشبابَ يعود يوماً *** سأخبره بما فعل المشيبُ
وحرف التمني (ليتَ) يفيد هنا استحالة عودة الحال الى ما كان عليه (الشباب) وتفيد بشكل عام استحالة ما يتمناه المرء..ومن هنا ننطلق الى قصيدة عيدروس نصر في رثاء عمر الجاوي سماها (فصل في كتاب الطهر) حيث يسيطر حرف التمني (ليتَ)على جو المرثية، فهو منذ البيت الأول يتمنى مالم يحصل ولن يحصل في عهد (حكام القهر الجبري المتنفذ)حيث يموت المعارضون والقادة الذين تحيا بهم الأمة ويحيا الفاسدون ومن لا يحبهم الناس ومن يتمنى الناس موتهم فلا يموتون وكأن أمد وعمر هؤلاء باقٍ حتى يستحيل معه الفناء.. يقول عيدروس في مطلع المرثية:
الا ليتهُ عاش الذي ماتَ زاهدا
ومات الذي مازال في الأرضِ فاسدا
ويا ليتني قد كنتُ دونكَ راحلاً
لأفديكَ من سوءٍٍ وأحميكَ من عدى
حرف التمني (ليتَ) هو المسيطر على جو النص يطلب المستحيل، يطلب أن يبقى (الذي عاش زاهداً) وأن يفنى (الذي ما زال فاسدا).. بابٌ جديدٌ من أبواب (التمني) لم يعرفه سيبويه ولا الأخفش ولا الكسائي من قبل، حيث يدخل هذه الباب في لغة وبلاغة سياسية وبحر جديد في المعارضة تنضب حروفه ولا تنضب آبار النفط تدر على (الذي ما زال فاسدا)عمراً طويلاً وأمداً لا يفنى.. وهنا يصير لحرف التمني (ليتَ) شأناً عظيماً في حياة الشعوب المقهورة تتمنى فلا يستجاب لها، وهنا يدخل الحرف( ليت) معترك الحياة السياسية والتمني فيكون الجواب مستحيلا، لا تغيير هناك ولا جواب سوى أن يموت المعارضون أو يشيبون في مرحلة الشباب المعارض ويحيا ويحيا ويحيا (الذي ما زال فاسدا)..تعالوا نقيس بلاغة حرف التمني السياسية (ليتَ) على حياة المعارضين في الوطن العربي، يولدون شيوخاً ويموتون صغاراُ..قال البردوني يصف المشهد :
ماذا؟ اتعجبُ من شيبي على صغري ؟ *** اني خلقتُ عجوزاً كيف تعتجبُ!!
من قصيدته (فصل في كتاب الطهر) في رثاء عمر الجاوي زعيم حزب التجمع الوحدوي يقول عيدروس نصر :
فلا عاشَ من يحيا الحياة منافقاً
ولا ماتَ من أفنى الحياةَ مجاهدا
ستحفظكَ الأيامُ فينا معلِّماً
وتبقى على مرِّ الدهور مجسَّدا
تعلِّمنا نبلَ الأصالةِ مشهداً
وتقرأنا فصل التطهُّر مشهدا
سنبقى على ذكراكَ أمضى عزيمةً
وتبقى لنا نوراً مضيئاً وموعدا
لئنْ غبتَ عنا أنتَ مازلتَ شعلةً
تضيء وللأجيالِ ما زلتَ مرشدا
ومن نتائج القراءة لبلاغة حرف التمني (ليتَ)أنه صار لها قصةً في ذاكرة الشعوب التي تشيِّع أحبابها من القادة الذين يحبون الشعب ويحبهم الشعب، ولكن (ليتَ) التي للتمني تعاند هذه الشعوب فلا يموت من تتمنى الشعوب موتهم وممَّن عاثوا في الأرض الفساد...باب جديد في التمني لم يطرقه سيبويه ولا عمالقة اللغة وأساتذتها قديماً...
رئيس عربي يصفونه بالجنون قال يصف الرؤساء العرب:( ديناصورات الإقليمية العربية) يعني يحكمون من عهد ما قبل الإنسان من عصر الديناصورات.. ويقول المواطن العربي بعد أن يئس من (ليتَ): (الحكام لا يموتون).. من يموت إذنْ؟ يموت الذين يتمنى المواطن العربي ألا يموتوا فماتوا، ويحيا من يتمنى المواطن أن يموتوا فلا يموتون..ولذلك كان مطلع القصيدة( أسلوب تمنٍِّ) يتمنى الشاعر فلا يجد أمنيته.. وما ذا يجد ؟ يجد قادة المعارضة ورموز الطهر والحرية هم وحدهم الذين يموتون وتعيش (ديناصورات) الى عهود وآجال لا نهاية لها، تعيش الى أبد الدهر...
من أعمال الحرف (ليتَ)-إذنْ- "استحالة زوال الحكَّام": باب جديد وعمل جديد من أعمال (ليتَ) الناصبة (سياسياً)،صار لحرف التمني(ليتَ) عملاً سياسياً في ذاكرة الشعوب المقهورة:
فلا عاشَ من يحيا الحياةَ منافقا ***ً ولا ماتَ من أفنى الحياةَ مجاهدا
تقدير الكلام في البيت فلا (ليته) عاش من يحيا الحياة منا فقاً..ولا (ليته) مات من أفنى الحياة مجاهدا) ولكن هل يحصل التمني في الواقع الإجتماعي والسياسي؟ أم يحصل العكس؟ وفي اليمن تفقد حروف النصب والرفع والجر عملها وحتى (الخمر )-والعياذ بالله- لم يعد يُسكر في اليمن لمن أراد أنْ يهرب من واقع (ديناصورات الإقليمية العربية) كما اشار البردوني في قصيدته (زمان بلا نوعية) التي يرثي فيها إبراهيم الحمدي :
فقدتْ سُكرها ضروعُ الدوالي *** صحوةُ الرُّعبِ وحدها المستطابة
ثم يمضي عيدروس نصر في مرثيته التي يسكب عبراتها على روح الراحل عمر الجاوي الذي كان دائماً يطلع قبل الفجر ويصحو قبل العصافير مغرداً ومنشداً للحياة :
وتطلع قبل الفجر تحشد نورهُ
تغرِّدُ جذلاناً وتعزف منشدا
وإنْ جاء سعدٌ لستَ تطلب حصَّةً
وإنْ كنتَ بين الناس أبهى وأسعدا
لأنكَ لا ترجو رصيداَ ومغنماً
ولا أنتَ من يسعى لكي يتسيَّدا
فإنْ كنتَ أوفى الناسِ قسطاً من الأذى
فإنكَ أعلاهمْ شموخاً وسؤددا
بكيتكَ حتى جرَّح الدمعُ مقلتي
ويبكي معي الأحبابُ والأهلُ والعدى
سيبكونَ دهراً في مساءٍ وبكرةٍ
وقد يذرفون الدَّمعّ سيلاً معربدا
وما كلُّ دمعٍ سال يكشف حسرةً
ولا كلُّ صوتٍ ضجَّ يحكي تنهُّدا
فقد يذرف التمساح دمعةَ نشوةٍ
وقد يطلق البوم الضجيج توعُّدا
وما أنا بالباكي عليك تصنُّعاً
فقد صرتّ عن زيف التصنع أبعدا
ولكنني أبكي مصاباً ألمّّ بي
ليحرمني كنزي ويسلبني اليدا
لقد كنت لي كنزاً وزاداً لرحلتي
ومخزن إصرارٍ وسيفاً مهندا
وأقوى من القهر احتجاجاً وحجةً
ومن صلف الأيام أقسى وأجلدا
وقد كنتَ أقوى من تسلُّط حاكمٍ
ومن عبث الأقدارِ أمضى تمرُّدا
لئن غبتَ عنَّا لست في الغيب مفرداً
وإن كنتَ بين الناس قد عشت مفردا
فمثلكَ لا يفنى وإن غابَ جسمهُ
ستبقى مدى الأجيال ذكراً مجدّدا
عرفنا أن حرف التمني( ليتَ)-الذي ينصب المبتدأ ويرفع الخبر- صار له عملاً بلاغياً وسياسياً جديداً وهو أن يعاند تمني الشعوب، فيتمنى المواطن العربي التغيير أو أن يقبض عزرائيل على حكام القهر والفساد فلا يستجاب لهذه الأماني، وعلى العكس من ذلك تُقبض أرواح الصالحين وقادة التغيير الذين أحبهم الناس..الحرف (ليتَ) للتمني يطاوع أماني الحكام ويخذل أماني الشعوب..وقلنا أن لحروف الرفع والنصب والجر وكل أدوات الإعراب حالات خاصة في اليمن حيث يبطل معها ثوابت العمل لمصلحة أنظمة الفوضى السائدة، واستشهدنا برائعة البردوني(زمان بلا نوعية) يرثي فيها إبراهيم الحمدي.. في القصيدة كما يمتنع الخمرُ عن الإسكار لمن أراد أنْ يهربَ من واقع القتل:
فقدتْ سُكرَها ضروعُ الدوالي *** صحوةُ الرعبِ وحدها المستطابة ْ
صحوة الرعب تطغى على خمر السُّكر في اليمن ..نقرأ في (زمان بلا نوعية) للبردوني كيف تسود الفوضى وتنقلب الموازين لمصلحة الحكام ضد الشعوب وحتى (القتل) "يقتل نفسه" ثم يلبس ثوب الجمال والقشابة وصناعة المنجزات والمعجزات ... هل رأيتم فوضى كهذه الفوضى اليمنية في هذا الزمان الذي بلا طعم بلا شكل بلا نوعية؟.. يقول البردوني :
ليس بيني ويبن شيئٍ قرابة ْ *** عالمي غربةٌ زماني غرابة ْ
ربما جئتُ قبلُ أو بعدُ وقتي *** أو أتتْ عنه فترةٌ بالنيابة ْ
....
منتهى الصحوٍ سكرةٌ سوف تصحو *** من تغنِّي ومن ترثّيِ (حبابة ْ)؟؟!!
فقدتْ سُكرَها ضروعُ الدوالي *** صحوةُ الرعبِ وحدها المستطابة ْ
....
يقتل القتلُ نفسَه ثم يأتي *** في ثيابٍ لها سِماتُ القشابة ْ
من هي (حبابة) ؟ في الأساطير اليمنية (حبابة) امرأة ميلاد أي كثيرة الإنجاب حتى أنه صار لها عشرات الأبناء والبنات وصار لها مثل عددهم من الأحفاد، فيأتي يومٌ يتزوج فيها أحد ابنائها موافقاً ليوم وفاة ابنٍ أو بنتٍ أو حفيد فيصيب حبابة الحيرة، هل تغني لعرس ولدها أم تبكي وترثي وفاة الآخر.. وحبابة هي مسقط رأس إبراهيم الحمدي ويوم مقتله حار الشعب أيغني للقادم الجديد أم يبكي على الراحل الزعيم، هذه رؤية أكد عليها بشجاعة الدكتور أحمد نعيم الكراعين-سوريا- أستاذ اللغة العربية بجامعة صنعاء عام 1989.
واقع اليمن مضطرب بتقلب أحوال الدهر الذي جاء ليعلي من شأن من لا يحبهم الناس ويخطف بالموت أو القتل أرواح من أحبهم الناس...هذا الإضطراب وهذا الإختلال أفرز بكائيات ومرثيات شعرية غير مصطنعة ولكن من شدة واقع اضطراب قيم الزمان فالدموع لا تهمي والبكاء لا يبكي والخمر لا يُسكرِ والقتل يلبس ثوب القشابة والجمال.
قصيدة عيدروس مرثية بكاء غير مصطنع ولكن اضطربت حروف المعنى وعجزت قواعد اللغة العربية والبلاغة والنحو أن تقنع الناس أنْ يبكوا لأنهم ألفوا التداخل بين الحقيقة والزيف والصدق والتصنع والأصلي والتقليد.
الا ليته عاشَ الذي ماتَ زاهدا** وماتَ الذي مازال في الأرضِ فاسدا
ثم يقول:
ولكنها الأقدارُ تغتال كلَّما ** تراه نفيساً رائعاً متجددا
أبى الموتُ الا أنْ يصيبكَ سهمُه ** ليخطفَ منّا مشعلاً متوقدا
اسلوب التمني لا يستجيب لطلب الشعوب التي تتمنى البقاء لقادة الخير والتغيير والفناء لمن أفسد-ولم يزل- في الأرض، وقلنا أن لحرف التمني (ليت) عملاً سياسياً حسب سياق النص بقراءة نقدية تتبع دور اللغة في النص والواقع، الواقع الذي يعاندالشعوب ويخدم اعداءها، وهكذا لم يعد من أملٍ للشعوب سوى أن تتمنى فلا يستجاب لها..وحتى الموت والأقدار يخطفان عمر الجاوي وأمثاله ممن أحبهم الشاعر..وكأنه غدا قدراً كونياً أن يرحل من هو أولى بميراث الأرض وهم الصالحون والمفكرون والعظماء ليخلد بدلاً منهم الفاسدون والمنافقون والأفاكون.. والقصيدة تنحى منحىً كلاسيكياً تقليدياً في الرثاء ولكن بتجربة شعرية صادقة يستدل عليها من تأثيرها في المستمع أو القارئ ..كل من عرف عمر الجاوي المعارض الشجاع يتأثر بلغة المرثية متعاطفاً مع الراحل كما في البيت التالي:
تجاهر لا تخشى عواقب ماترى ** صواباَ وتمضي لا تهابُ توعُّدا
هذا البيت صادق الخبرة والتجربة لمن عرف الراحل الذي حصدت فرق الإغتيالات معاصريه من القادة والمفكرين رفاق درب الشاعر والراحل معاَ، ومضى الجاوي شامخا ً لم ينكسر حتى خطفته يد المنون، وكان الجاوي شجاعاً مقداماً مع خفةٍ في الدم والروح.
اسلوب التعويض النفسي استراتيجية للنص
الأهم عندي في هذه القراءة (اسلوب التعويض النفسي ) في النص لما فات من استحالة جواب التمني كما في الأبيات التالية:
لئن غبتَ عنَّا لست في الغيب مفرداً
وإن كنت بين الناس قد عشت مفردا
فمثلك لا يفنى وإن غابَ جسمهُ
ستبقى مدى الأجيال ذكراً مجدّدا
فلا عاش من يحيا الحياة منافقاً
ولا مات من أفنى الحياة مجاهدا
ستحفظك الأيام فينا معلِّماً
وتبقى على مرِّ الدهور مجسدا
تأملوا المفردات :
-فمثلكَ لا يفنى وإنْ غاب جسمه
-ستبقى مدى الأجيال ذكراً مجدَّدا
-وتبقى على مر الدهور مجسّدا
-سنبقى على ذكراكَ أمضى عزيمةً
- وعش خالداً ما دمتَ فينا مخلّدا
هذا اسلوب تعويض نفسي بمفردات لغوية كإستراجية رد وردع لأسلوب التمني (المعاند في استجابة الطلب)، أسلوب يحفظ توازن الشاعر والشعوب التي عاندها طلب المحال ( الا ليتَ....) انها استراجية كل المرثيات للعظماء وعلى أساس هذا التوازن يخلّد الراحلون .. من ذلك قصيدة سيد قطب الخالدة (لحن الخلود) نوردها لأهميتها والتي منها:
أخي إنْ نمتْ نلقَ أحبابنا *** فروضاتُ ربي أُعدتْ لنا
وأطيافها رفرفت حولنا *** فطوبي لنا في ديار الخلود ْ
القصيدة مرثية تقليدية كلاسيكية بوزن وقافية (قصيدة العمود)غير أنها قوية التجربة، صادقة الرثاء من وجهة نظري لسببين اثنين، الأول أن الشاعر منسجم مع نفسه وفكره ومبادئه التي آمن بها ولم يبع ولم يساوم بالرغم من أنه –حسب علمي المتواضع-ينتمي لعائلة فقيرة مالياً ولكن غنية بالفكر والإنسانية والصمود، ثانيا أن المرثي وهو الراحل عمر الجاوي كان أيضاَ صادقاً مع نفسه وفكره ولم يبع ولم يساوم ولم يسلم للإستبداد باسم الدين أو الحزب أو الوطن وجالد زبانية التسلط وفند أكاذيبهم بقوة وثبات وأنفة وعزة حتى رحل... أود أن أشبه عمر الجاوي ب نعمان جمعة رئيس حزب الوفد المصري المعارض، زعيم صامد مقاوم للديكتاتورية والتوريث رغم الإعصار والحصار وفرض الإقامة الجبرية عليه، وكان الجاوي مشهوراً بالسخرية السياسية والدعابة المنظمة الهادفة والنكات اللاذعة لتشريح خصومه في تلك الحقبة من نضال الراحل وللجاوي ملاحظات قاسية على رفاق الحزب الإشتراكي اليمني في مناسبات مختلفة.
قصيدة عيدروس نصر "فصل من كتاب الطهر" التحم فيها لأول مرة تقريباً في تاريخ الشعر اليمني المعاصر والجديد صدق ووفاء وصمود وبطولة وعظمة الشاعر(الراثي)مع عبقرية وعظمة وصمود وشهامة وإنسانية(المرثي).. أليست هذه أصدق تجربة شعرية لأصدق قصيدة وأجمل وأبدع نص شعري؟ أليست شروط النص متوفرة كلها وأن عناصر التجربة الشعرية مكتملة على أرض الواقع قبل الورق؟
لقدامتزج شاعران في النص بتجربة إنسانية منصهرة في روح شاعرية بل إنسانية مناضلة واحدة هما الشاعر(كاتب النص) من جهة، والشاعر الآخر لم يكتب النص كلمات على الورق وهو الجاوي، نص مسطور في الحياة السياسية والنضالية الخالدة، ولهذا فالنص –موضوع هذه القراءة-إنسانيٌ خالدٌ لأنه ببساطة يدور حول قضية النضال من أجل حياة إنسانية مثالية كريمة ،حياة مؤسسية ديموقراطية حقيقية حرة بلغة الإنسان الشاعر والسياسي الحبيب والقريب الى معنى الإنسان ..وأوضحت في مثال سايق لماذا يحفظ الناس قصيدة سيد قطب (لحن الخلود) أخي يامقيمٌ وراء السدود ولم يحفظوا لسواه،الشاعر الإنسان دائماً في صف الحياة وصف الجمال وصف الشعب حتى المشنقه ولهذا صارت نصوصهم خالدة.
شاعر وناقد يمني مقيم في الهند
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.