وهناك من ساعدته ظروفه وذهب بعيداً هرباً من الجوع والفاقة، ولم يجد في غربته سوى الضياع وعدم استقرار روحه هناك ولعشقه اللامتناهي لوطنه، الذي ترعرع به ونشأ فوق ترابه وغرس فيه أحلامه الكثيرة المؤلمة. في حين قد أخذت بعضهم أحلامهم إلى مضايق مغلقة فلم يستطيعوا الخروج منها أو القفز عليها والتخطي لتحقيق تلك الأحلام البسيطة جداً، والتي كانوا يوهمون أنفسهم، بل يعتقد البعض بتحقيقها وحين تصل حالته البائسة إلى طريق النهاية بعد جري متعب ومشقة أكثر تعباً وقلقاً يقف يتأمل حوله فلايرى إلا روحه.. وكأنه كان يدور حوله نفسه وظلاله. ذلك سخف واستهزاء حين ينظر للمثقف والفنان والمبدع في هذا الوطن نظرة دونية قاصرة لعمله ولإبداعه الذي لايضاهى بثمن حين يترك وحيداً لاتعره أية جهة اهتماماً، ليموت بؤساً وجوعاً.. يفتك به المرض ولايستطيع شراء الدواء المناسب لشفائه، بل أحياناً لايملك ثمن ذلك الدواء فيستدين وقد لايجد من يقرضه المال الذي هو في حاجة إليه. ذلك المبدع الحقيقي الذي لايسأل أحداً ولايقف على باب أحد ولايستجدي العطاء من أحد ويكتفي فقط بما يدخله كل شهر قد يكفي وقد لا يفي بضروريات حياته ومعيشة أسرته الكريمة. كم هو أمر محزن حين يموت أدباؤنا ومثقفونا ومبدعونا وهم منكسرون وحزانى وموجوعة قلوبهم لايستطيعون تحقيق بعض من طموحاتهم القليلة الكثيرة. كم هو سخيف هذا الوطن وبائس حقاً حين يترك مثقفيه ومبدعيه تنخر الفاقة قلوبهم وتقتل كبرياءهم وكل جميل فيهم دون رحمة وإدراك، وهو واقف بشموخ وكبرياء يتأملهم ضاحكاً وهم يتساقطون واحداً تلو الآخر غير مكترث بهمومهم ومتاعبهم وما آلت إليه أحوالهم من بؤس وتردّي. إن المثقف والمبدع هو أمل الأمة وهو عقلها ومشروعها التنويري الذي ينهض بها ويخرجها من مضايق جهلها إلى طوابق من النور والأمل.. ذلك هو دوره الحقيقي.. فكيف إذن يستفيق وينهض وقواه لاتساعده على النهوض وعقله مشوش مليء بالتعب والأرق ..؟ حين يظل يلهث ويجاهد طوال عمره من أجل كسرة خبز يشبع بها خواء أمعائه وأسرته وقد لايفي بتحقيق ولو جزء يسير من ذلك. صراع من أجل البقاء ومأساة أكبر حين يكون يعيل أسرة تكون أعدادها كبيرة جداً. وقد يعيش عمراً كاملاً، وهو يصارع ويكافح في شراء بعض لوازم منزله ويعمل على سداد أقساط ماأشتراه من راتبه الشهري الذي لايكفي لسداد حاجته وأحياناً لايفي بسداد ماعليه لصاحب البقالة التي بجانب منزله.. والمصيبة أكبر في دفع إيجار المنزل آخر الشهر من راتبه الشهري الضئيل. أليس من حق هؤلاء أن يحلموا بتحقيق ماتصبوا إليه أنفسهم من أحلام وطموحات وأشياء بسيطة جداً وقليلة.. وإن كانوا لايستطيعون تحقيق كل ذلك.. لكن من حقهم أن يحلموا بما تهفوا إليه أنفسهم وترغب في امتلاكه وتحقيقه ذات يوم. من حق كل واحد أن يحلم بأن يكون له أصدقاء رائعين ومخلصين يرتبط معهم بعلاقات حميمة وقوية، يفتخر بهم ويفتخرون به في كل جمع وفي كل لقاء. من حق كل واحد أن يحلم بأن ينجب العشرات من الأبناء والبنات يجالسهم ويلاعبهم وينسى بهم همومه ومتاعبه الكثيرة.. من حق كل واحد أن يحلم بأن يكون لديه جهاز كمبيوتر محمول يأخذه معه أنى ذهب وإلى مكان عمله وأي مكان آخر يريد. من حق كل واحد أن يحلم بسيارة صغيرة يدور بها ويشاهد من خلالها كل الأمكنة الر ائعة في وطنه.. من حق كل واحد أن يحلم بأن يمتلك بيتاً جميلاً ورائعاً في تنسيقه وبنائه تحيط به حديقة ملأى بالزهر والورد يتأملها ويشتم روائحها في كل لحظة وفي كل حين.. من حق كل واحد أن يحلم بأن تكون لدية زوجة ثانية أو ثالثة تؤازره وتعينه على مصائب ومتاعب هذه الحياة البائسة وتعطيه كثيراً من البنين والبنات وتقف معه في وقت الشدائد والمحن الكبيرة . من حق كل واحد أن يحلم بأن يبيع هاتفه الخلوي الذي يملكه منذ عمر من الزمن ويستبدله بآخر يساعده ويعطيه مزيداً من الخدمات وأكثرها سرعة وحداثة. من حق كل واحد أن يحلم بأن يتعلم تعليماً عالياً ويحصل على أعلى الشهادات والدرجات العالية وأن يبدع ويقدم مالديه من مواهب ومدارك متعددة من خلال تخصصه الذي يعشقه ويستميت حباً ورغبة في أن يتعلمه ويحصل عليه ذات يوم. من حقنا أن نحلم ونحلم ونحلم ...! طموحات وأحلام كثيرة تصبو النفس والروح لها ، وفرق شاسع بين الحلم والحقيقة. لذلك اتساءل بألم وفجيعة.. ! أنستطيع حقاً تحقيق شيء من هذه الأحلام في وطن علقت به كثير من الندوب والجروح..؟ سيتعافى حتماً وسيشفى من كل آلامه وماأصابه من وهن وعجز وسينهض واقفاً بعزة وكبرياء.. وإننا متفائلون بذلك ..! ومع كل المنعطفات والمتغيرات والعواصف التي تهب وتعصف بالأمم والشعوب، فإننا لانرى سوى وطننا الذي نعشقه ونستميت لأجله ونحلم به وطناً شامخاً وعزيزاً نفاخر به بين كل الشعوب. تلك بعض أحلام وطموحات.. ! وإن حلم كل مثقف ومبدع قد يتجاوز كثير من التصورات والتخيلات وسيبقى يتأمل في تحقيقها، وسيصارع حتماً كل ضرف وزمن ليصل إلى مبتغاه.. وأن غداً سيكون أجمل.. وأننا واثقون ومتفائلون في كل شيء ونرى الحلم حقيقة ينتصب بين أعيننا ويشتعل في دواخلنا ولاينطفيء.