الشتاء يتحول إلى كارثة إنسانية: 20 وفاة وآلاف النازحين بالعراء في غزة    نكف لقبائل الخبت بالمحويت تاكيدا للجهوزية ونصرة للقرآن الكريم    مركز البحر الأحمر للدراسات يصدر كتابين جديدين حول الهجرة الأفريقية غير الشرعية إلى اليمن والقضية الفلسطينية    ورشة حول الصحة والسلامة المهنية بصنعاء    عاجل: أهم نقاط البيان.. سيئون تجدد العهد لاستعادة دولة الجنوب وتفوض الانتقالي خيارًا نهائيًا بلا تراجع أو مساومة    مجلس الأمن الدولي يعقد جلسة طارئة غدا لبحث الاعتراف الإسرائيلي ب"أرض الصومال"    ميلان يقسو على فيرونا بثلاثية ويعتلي صدارة "الكالتشيو" مؤقتاً    أمين العاصمة يتفقد أعمال صيانة شارع سبأ بمشاركة مجتمعية    البحسني ينعي 5 شهداء من جنود قوات النخبة الحضرمية    المجلس الإسلامي العلوي: سلطة الأمر الواقع كشفت حقيقتها القمعية    خفر السواحل تحذر من السباحة قبالة سواحل عدن وأبين وشبوة    المحرّمي يطّلع على سير العمل في المؤسسة العامة للاتصالات وخططها المستقبلية    تحت شعار الهوية والانتماء.. جامعة صنعاء تُحيي ذكرى "جمعة رجب"    صنعاء.. صدور حكم استئنافي في قضية الصحفي محمد المياحي    صنعاء: المكاتب التنفيذية تُحيي ذكرى "جمعة رجب"    الصين: تأسيس أكثر من مليون شركة جديدة في 11 شهرا    هل بات قادة اوروبا يخشون "سلام ترامب" في أوكرانيا؟!    اليمن بين ثبات النهج ومنزلق الارتهان: قراءة في ميزان السيادة والهوية    نيجيريا تسقط تونس في مباراة مثيرة وتبلغ ثمن نهائي كأس أمم إفريقيا    صحيفة فرنسية: غارات جوية وأزمة إنسانية.. لماذا تصاعدت التوترات فجأة في اليمن ؟!    هروب    الاعتراف الإسرائيلي بالصومال خطر يهدد الجنوب العربي وخليج عدن    وفاة المخرج المصري الكبير داوود عبد السيد    هؤلاء هم أبطال حضرموت قيادات صنعت المجد وقهرت الإرهاب    رشاد العليمي يسهل لنجله عبدالحافظ سرقة نفط حضرموت    محمد صلاح يواصل تحطيم الأرقام القياسية في «كأس أمم إفريقيا»    في صنعاء.. هل ابتلعنا "الثقب الأسود" جميعًا؟    الصحفي المهتم بقضايا الناس وانشطة الصحافة الثقافية عبدالعزيز الويز    قراءة تحليلية لنص «صدمة استقبلتها بقهقهة» ل"أحمد سيف حاشد"    الأحزاب تثمن استجابة التحالف لطلب القيادة اليمنية وترحب برسالة وزير الدفاع السعودي    دوري روشن السعودي: اتحاد جدة يهزم الشباب بثنائية نظيفة    ضبط مصفاة نفط جديدة غير قانونية لمتنفذ يمني في خشعة حضرموت    اكتشاف آثار حضارة متطورة في باكستان    ضربة بداية منافسات بطولة كأس العالم للشطرنج السريع والخاطف قطر 2025    الافراج عن اكبر دفعة سجناء بالحديدة تنفيذا لتوجيهات قائد الثورة    اتحاد حضرموت بحافظ على صدارة المجموعة الثانية بدوري الدرجة الثانية    مأرب تحتفي بتخريج 1301 حافظًا وحافظة في مهرجان العطاء القرآني    القيادة التنفيذية العُليا تناقش الجهود المبذولة لتأمين الخدمات للمواطنين ومراقبة أسعار الصرف    الأرصاد يخفض التحذير إلى تنبيه ويتوقع تحسناً طفيفاً وتدريجياً في درجات الحرارة    ما علاقة ضوء الشمس بداء السكري.. نصيحة للمصابين    الدولار الأمريكي يترنح في أسوأ أداء أسبوعي منذ شهور    إنجاز 5 آلاف معاملة في أسبوع.. كيف سهلت شرطة المرور إجراءات المواطنين؟    العطاس: نخب اليمن واللطميات المبالغ فيها بشأن حضرموت"    المغرب يتعثر أمام مالي في كأس أمم إفريقيا 2025    جُمعة رجب.. حين أشرق فجر اليمن الإيماني    الكشف عن عدد باصات النساء في صنعاء    الكتابُ.. ذلكَ المجهول    ريال مدريد يدرس طلب تعويضات ضخمة من برشلونة    صنعاء توجه بتخصيص باصات للنساء وسط انتقادات ورفض ناشطين    صدور كتاب جديد يكشف تحولات اليمن الإقليمية بين التكامل والتبعية    الأميّة المرورية.. خطر صامت يفتك بالطرق وأرواح الناس    الصحفي المتخصص بالإعلام الاقتصادي نجيب إسماعيل نجيب العدوفي ..    "أهازيج البراعم".. إصدار شعري جديد للأطفال يصدر في صنعاء    تحذير طبي برودة القدمين المستمرة تنذر بأمراض خطيرة    هيئة المواصفات والمقاييس تحذر من منتج حليب أطفال ملوث ببكتيريا خطرة    بنات الحاج أحمد عبدالله الشيباني يستصرخن القبائل والمشايخ وسلطات الدولة ووجاهات اليمن لرفع الظلم وإنصافهن من أخيهن عبدالكريم    بنات الحاج أحمد عبدالله الشيباني يستصرخن القبائل والمشايخ وسلطات الدولة ووجاهات اليمن لرفع الظلم وإنصافهن من أخيهن عبدالكريم    لملس والعاقل يدشنان مهرجان عدن الدولي للشعوب والتراث    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يريم مدينة تصنع النكتة وتنافس ذمار
من هنا تراجعت دولة الدنوة
نشر في الجمهورية يوم 15 - 04 - 2013

ما زالت ريشة نيبور التي رسمت يريم في عصر انعدام الكاميرا تذكّرنا بمأساة الملاريا التي فتكت بفروسكال أحد أهم أعضاء فرقته إلى جانب أعداد هائلة من اليمنيين الذين راحوا ضحيتها، كما تذكّرنا أسوار يريم بتراجع أول ثورة للفقراء من على عتباتها تراجع بتراجعها مشروع دولة فتية كانت ترفع حق العدالة شعاراً في وجه الاستبداد الإمامي في العصور الوسطى.
حال المكان
كان الدخول إلى يريم قدوماً من المناطق الوسطى عبر بوابتها الشرقية حيث تبدو محاطة بمزارع الخضرة ، البيوت اللبنية العتيقة تقوم على تلة صخرية محاطة بسور قديم اندثر معظمه، يقع في طرفها الجامع القديم المميز بمنارته السامقة، المدينة حالياً تتمدد وتتسع شوارعها الرئيسية في جميع الاتجاهات، وهي آهلة بالسكان وتتمتع بحركة تجارية غير عادية، هذه المميزات جعلتها أهلاً لتوافر المرافق الخدمية العامة والمؤسسات الخاصة الحديثة.
وهي سوق اسبوعي عام مزدحم يأتيها الناس من القرى والمناطق المختلفة، تمتلئ بالبسطاء، تكتظ بالمتسولين بأساليبهم الفنية المتعددة الراقية إلى غاية واحدة، تكثر في شوارعها البسطات وعربات اليد «الجواري» الكل يبحث عن الرزق بمصادره المتعددة لتوفير القوت اليومي، يريم كأي مدينة يمنية لا تخلو غالباً من مثل هذه المشاهد الدرامية التراجيديا المتكررة، الكل هنا يرسم في شفاهه أحلام وتطلعات المستقبل حتى بائع السيجارة المتجول ومفترش الأرض.
وكما أن مدينة القاعدة تعتبر أولى مدن اللواء الأخضر وبوابته الواقعة في أطرافه الجنوبية على أعتاب محافظة تعز فإن مدينة يريم أولى محطاته الواقعة في أطرافه الشمالية على محاذاة محافظة ذمار تقف كحارس بوابة تستقبل الوافد إلى المحافظة وتودع الخارج منها.
ظهور متأخر
فيما مضى لم تكن يريم تعرف إلى كقرية صغيرة غير ذات أهمية تذكر وبدأت تبرز كمدينة كما يؤكد الاستاذ الرزامي في القرن الحادي عشر الهجري وفي هذا يكون قوله مجانباً تماماً لقول محمد بن علي الأكوع الذي ذكر أنها ظهرت في القرن الثامن الهجري، وقد أكد على كلامه بوجود الأدلة والوثائق الدامغة وقد كانت قبل ذلك قرية صغيرة يذكرها الهمداني في صفته ضمن قرى يحصب العلو، ويريم القرية هي الواقعة حالياً في الأطراف الشرقية لمدينة يريم وعند بروزها كمدينة ومركز حكومي كانت محاطة بسور له ثلاث بوابات هي باب المناخ الغربي وهو الباب الكبير وسمي كذلك لإناخة الجمال أمامه، وأما الباب الثاني فهو باب الدرب ويقع في الجهة الشرقية وفي الجهة الجنوبية يقع الباب الصغير، وكان أهم أسباب تحول يريم إلى مدينة هو توالي العمال عليها وذلك منذ حكم الإمام القاسم بن أحمد المتوفي 1025هجرية ولما سيطر الأتراك فيما بعد عليها وكان الباشا محمد أحد ولاتها توفي في عهده العلامة حسن باشا وقبر خارج أسوار يريم، أسس له الباشا محمد قبة عرفت بقبة الحسني وتم بناء الحمام الساخن إلى جوارها ومن ثم بدأ البناء يخرج عن إطار اسوار يريم القرية فتأسست بذلك حارة الحسني، وهي الحارة الأولى إلى جانب القرية داخل الأسوار ثم تلاها تأسيس الحارة الثانية حارة السبحة، حيث انتقل إليها بعض سكان القرى القريبة، وكانت الحارة الثالثة من تأسيس الباشا محمد الذي بنى للمدينة سوراً وجعل أبوابه على غرار أبواب صنعاء سميت بأسمائها وكان على تلك الأبواب مناوب للحراسة، السور حالياً خربت كثير من معالمه وخاصة في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين وبنيت بأحجاره البيوت ولم يبق حالياً من آثاره إلا القليل، إحدى بوابات السور الشهيرة تُعرف باسم باب اليمن تم تدميرها سنة 1347ه عندما حلّقت أول طائرة عسكرية بريطانية في سماء شمال اليمن وقامت بضرب يريم، كان ذلك بسبب اختلاف الإمام يحيى مع البريطانيين.
في أروقة المدينة
في جولة سريعة في ثنايا يريم بدأناها بدخول بوابة اليمن نحو سمسرتي ملاح حيث توجد معاصر الخردل التي تصل إلى أكثر من عشرين معصرة لم يبق منها إلا خرائبها ومنها إلى الجامع الكبير المتميز بساقية مائية تأتيه عبر عقود من إحدى آبار المدينة ويتميز أيضاً بوجود مدخل ينفذ إليه من سور المدينة، وهو ذو منارة سامقة، ومبني بأحجار قصور ريدان المنقولة إليه من ظفار عاصمة دولة حمير القريبة من يريم جنوباً، الجامع عمل على تجديده عامر بن داوود الطاهري ووسعه حسن باشا وفي عهد أحد عمال بيت الإرياني في يريم وتم توسعته أكثر أيام السيد أحمد الخباني.
سوق يريم القديم مجرد هياكل حجرية خاوية على عروشها وكان في طابعه لا يختلف عن الأسواق اليمنية الأخرى حيث كل جزء منه يحتوي على نوع معين من السلع المعروضة ، أما باب المناخ أشهر أبواب سور يريم والذي ما زال قائماً ويتكون من عقدين متتاليين فإنه يتميز بمصاريعه الخشبية الضخمة وبوجود غرفة ماء أرضية مقضضة أسفل البوابة عند يسار الداخل.
المدينة داخل الأسوار عبارة عن بيوت كثيفة متشعبة، كثيرة الالتواءات والمداخل التي تتخلل البيوت، وهي بحاجة إلى الترميم والصيانة للحفاظ عليها وعلى معالمها كتراث متميز في الفن المعماري القديم، قلعة يريم التي تعلو القرية القديمة تشرف على يريم من نواحيها، حالياً غزا أعلاها التين الشوكي كما غزا سورها القديم وطغى على جوانبه.
لم تعد يريم يريماً
قرية يم هذه التي تقع في أطراف مدينة يريم الشرقية والتي ذكرها الهمداني في صفته لم تكن هي يريم أساساً وإنما أخذت اسمها من اسم أكمة يريم أساساً وإنما أخذت اسمها من اسم أكمة المرايم وهي يريم الأساس يذكرها الأستاذ نزيه العظم في كتابه «رحلة اليمن السعيد» أن اسمها مريمة، ومريمة أكمة تقع في أطراف يريم الغربية وبها آثار حميرية كثيرة وبقايا أسوار تحيط بها مداميك مطمورة ومعظمها ظهر نتيجة القيام بحفريات لأساسات كثير من المنازل التي بنيت فيها حالياً وعلى ما يبدو في الواقع أن بعض المنازل قد بنيت بأحجار الأسوار الأثرية وإحدى البنايات الحديثة مقامة مكان منزل أثري أخذت عنه بعض أحجاره وهي متميزة من بين الأحجار العادية، كانت الجهات الرسمية قد عملت على منع صاحب المنزل من البناء ولكنه لم يمتنع.
ومن المآثر الموجودة غرب يريم أيضاً أكمة حبوبة مرة التي كان يمتد منها حاجز لسد يصل إلى أكمة المصلى، ومن المآثر جبل يصبح الواقع شرق يريم، كانت تعلوه قلعة لم يبق من آثارها إلا البرك، ومن المآثر التي اكتشفت نتيجة لحفريات البناء حديثاً وجود قنوات مائية أرضية كانت مردومة وتم بناء المنازل عليها.
مدينة تصنع النكتة
تتميز كثير من المناطق اليمنية بممارسة السخرية والتبادل النكتي يفيما بينها مما أضفى عليها طابع المرح وجعل منها مثالاً عند الناس يتداولون نوادرها وخاصة في جانب النكتة ويريم إحدى هذه المناطق التي تجعل من النكتة صنعة تحترفها ، فهي مدينة النكتة والفكاهة والسخرية تقف مع مدينة ذمار نداً لند كل منهما يكيل للآخر سيلاً من النكت الساخرة البديعة وذلك منذ زمن ليس بالقريب مثلها مثل كثير من المناطق اليمنية التي تتبادل النكتة على سبيل الهجاء كمدينتي جبلة و إب ومنطقتي البخاري والمخادر بنفس محافظة إب وذمار وصنعاء وغير ذلك من المناطق اليمنية.
ونحن في هذا المقام لا نستطيع إيراد أي من النكات الهجومية المتبادلة بين يريم وذمار لضيق المساحة ولكون النقل الكتابي ليس بأفضل من الالقاء شفاهية وما يجب أن نستشفه من ذلك وأن نشير إليه هو أن النكتة لا يمكن أن تأتي من فراغ فهي في معظمها ناتجة عن ثراء لغوي وثقافي معزز باستيعاب شامل لمعطيات الواقع وإلمام عام بحال الجانب الآخر الغاية من النكتة، والنكتة بشكل عام لا تصدر بهدف التسلية فقط وإن كانت التسلية هي الجانب الأهم من وراء انتاج النكتة إلا أنها غالباً ما تعالج واقعاً معاشاً يتأثر به مجموعة أو كل الناس فتكون النكتة بمثابة إشعار أول يراد به التنبيه للخطأ الحاصل وبنفس الوقت تعتبر تنفيساً يزيل جزءاً من هموم هذا الواقع الذي تعالج النكتة جوانب هامة فيه إما اجتماعياً أو سياسياً أو ..الخ.
دولة الدنوة
يذكرنا الوقوف أعلى حصن يريم والنظر في أسوارها العتيقة تراجع جيش الفقيه سعيد «صاحب دنوة حبيش» مهزوماً خارج أسوارها وذلك قبل حوالي قرنين من الزمان عندما حاصر بقواته قوات الإمام الهادي القبائلية الذي استطاع شراء ذمم قادة جيش الفقيه سعيد بمبالغ مالية طائلة بعد أن شدد عليه جيش الفقيه الحصار داخل أسوار يريم وضاق به الحال وخرج الجيش المحاصر ليهزم الجيش المحُاصر خارج الأسوار فتراجع جيش الفقيه الذي تراجع بتراجعه مشروع دولة فتية لم تشهد خلال عمرها القصير غير العدل وانقاذ العباد من ظلم العباد، كانت ثورة كما يطلق عليها كثير من المثقفين للفقراء انتزعت حقوقهم من مخالب الوحوش الآدمية التي ما راعت في الناس إلاً ولا ذمة، فكان الإمام سعيد بن قاسم العنسي داعية لإحقاق الحق واخماد روح الشر ولم يكن كما صوره خصومه مدعياً إنه المهدي المنتظر.
فورسكال العظيم
وإذا كانت الذكرى جرساً رناناً في عالم النسيان فإن ذكرى أعضاء الفرقة الدانماركية القادمة إلى اليمن في العام 1761م على قدر ما كانت مفرحة بالنسبة لنا بقدر ما كانت تمثّل مأساة بالنسبة لأعضاء البعثة الدانماركية العلمية التي عملت على اكتشاف البلاد السعيدة خلال السبع السنوات التي غابت فيها عن بلادها حيث فتكت بهم الأمراض التي أدت بهم إلى الموت واحداً تلو الآخر ولم يعد من أعضاء الفرقة إلى بلاده بعد المدة المحددة غير نيبور الذي رعته عناية الله فلم يلق مصرعه كأصدقائه.
ولقد كانت يريم إحدى محطات البعثة التي خيمت فيها عند طريقها إلى صنعاء قدوماً من المخا وفيها كان فورسكال يلفظ أنفاسه الأخيرة بينما نيبور يرسم بريشته يريم من على نافذة الغرفة المطلة على المدينة، لم تشفع لهم إنجازاتهم وأبحاثهم العلمية أمام سكان يريم الذين رفضوا حمل جثة فورسكال إلى القبر كونه غير مسلم إلا نفر من الفقراء مروا به بين دهاليز المدينة خشية أن يراهم سكانها وافقوا على حمله بعد اغرائهم بالمال الكثير.
فورسكال الذي راح ضحية مرض الملاريا كان عالماً نباتياً وجد في اليمن من الاعشاب الطبية الكثيرة والنادرة ما لا يوجد في بلد غيره وقد عبر عن ذلك بقوله في ختام رسالة له بعث بها من بيت الفقيه إلى البروفيسور «لينوس» في كوبنهاجن: وفي الحقيقة يستحق هذا البلد أن ترسل إليه بعثة زراعية خاصة ويجب التمسك به على أن ترسل البعثة على شرف البروفيسور «ميشاليس» في كوبنهاجن وإذا لم يطل بي العمر حتى أناقش معه ما جمعته من نباتات فسوف أخسر ويخسر معي العلم أكثر مما تتصور.
موسوعة تاريخ
لم يكن هناك في يريم ما يمتع رحلتي أكثر مما أمتعها وجود الأستاذ القدير نجيب عبدالكافي الرازحي الذي قادني نحو معرفة معالم المدينة الكثيرة وهو أحد القلائل الذين لديهم اهتمامات بالتاريخ واستقراء أحداثه واسقاطها على الواقع ولقد كنت في منزله أعيش في كنف متحف تاريخي، فالرجل يتكلم التاريخ ويسرده بالأرقام والأحداث وكأنه عاصرها أو خاض غمارها، مكتبته تحوي في معظمها كتباً تاريخية هامة.
فتحها على مصراعيها وقدم عصارتها دون تحفظ فكانت نادرة قلما نجدها تحوي مخطوطات فقهية قديمة إلى جانب كتب التاريخ كشرح الأزهار التي يصل عمرها ما يقارب 750ه ومخطوطة أخرى عمرها سنة 800 للإمام الهادي، وللحقيقة أني لم أستغن عن معلوماته لحظة واحدة لولا أني لم أستطع كتابة معظمها لسبب سرده الشفهي المسهب أثناء طوافنا أرجاء المدينة.
محطة زراعية
احتلت يريم منذ القدم مكانة مرموقة بين سائر المناطق اليمنية وخاصة في الزراعة حيث أبدع سكان يريم بهذا الجانب ومازالوا كذلك حيث تم إنشاء حوالي ثمانين سداً في منطقة قاع الحقل لوحدها وهي المنطقة الخصيبة الممتدة من كتاب جنوباً عند محاذاة نقيل سمارة حتى يريم وما بعدها وبذلك يقول الملك التبع أسعد الكامل:
وفي البقعة الخضراء من أرض يحصب.. ثمانون سداً تقذف الماء سائلاً
ولا تزال لتلك السدود بقايا آثار فمنها ما هو على شكل مستنقع طيني وحل ومنها ما انتهى وأصبح حقولاً أو أقيمت قرى في أماكنها إلا أن كثيراً منها ما زال يحتفظ بقنواته الرئيسية حتى وقتنا الحاضر.
ولا يعني انتهاء تلك السدود انتهاء الزراعة في مناطق يريم المختلفة وخاصة قاع الحقل فما تزال يريم معدودة كأهم المناطق الزراعية اليمنية بل هي المحطة الأولى حيث تستخدم في العملية الزراعية أحدث الوسائل والطرق ولا يزال سكانها هم من أمهر الناس وأكثرهم خبرة في الجوانب الزراعية إطلاقاً.
عودة تاريخية
منذ القدم ومناطق يريم مضافاً إليها مديرية القفر و جزء من محافظة ذمار كانت تعرف بمخلاف يحصب وكان المخلاف ينقسم إلى يحصبين، يحصب العالي ويبدأ من كتاب وينتهي بذمار المدينة وما بعدها وكذلك جبال بني مسلم من مديرية القفر وخودان وعزلة بني سيف وأما يحصب السافل وهو ما كان يعرف قديماً ببلاد الوحش ويعرف حالياً بالقفر السافل والتي تمتد نحو محاذاة وصاب وحزم العدين وحبيش، وسميت بيحصب نسبة لأحد أقيال حمير وقبائله التي قطنت هذه المناطق ، وقد كانت أرض يحصب بسبب قربها من عاصمة الدولة الحميرية ظفار التي تقع شرق قاع الحقل وبسبب وجود مساحات زراعية شاسعة كقاع الحقل مثلاً محط اهتمام الدولة الحميرية التي قامت بإنشاء عدد من السدود التي وصلت إلى ما يربو على الثمانين وعدد من الحصون والقلاع الأثرية في الجبال الغربية المحيطة كجبال بني مسلم وبني سيف وخودان والجبال الواقعة شرق يريم هذه الجبال كانت بمثابة مواقع انساق حمائية أولية تحيط بعاصمة الدولة لتحافظ على هيبتها وأمنها، ولا يزال في هذه الجبال من الحصون ما هو قائم بذاته حتى الساعة ومنها مالم يبق منه إلا آثاره وأهم وأشهر هذه المواقع الأثرية منطقة خودان التي وجدت فيها بعض المآثر التي غطتها الأتربة لتحفظها من عبث الأيام ومع ذلك لم تحفظها من عبث العابثين، ولا يزال الناس هناك يذكرون المآثر التي برزت نتيجة الحفريات التي قام بها المواطنون لبناء مدرسة للمنطقة.
ومن المآثر التي ما زالت ماثلة حصن قلة بني مسلم الواقع على مرمى نظر شمال قرية صرحة أعلى قرية يستحمر، وهو حصن أثري أبوابه لا تزال قائمة، وبه مبانٍ سكنية مهجورة غير صالحة للسكن وما زالت موجودة على الطبيعة وتستخدم حالياً كسكن للماشية، وبحصن القلة سد قديم تستفيد منه القرى المجاورة، أقام في هذه القلة «الحصن» الإمام العلامة محمد بن ابراهيم الوزير المتوفى سنة 840ه واتخذ منها مسكناً وبنى فيه مسجداً ما زالت آثاره قائمة، القى الإمام فيه العلوم الإسلامية على طلابه كان عالماً ربانياً مجتهداً وأحد أعلام اليمن هو صاحب كتاب العواصم والقواصم ، يقول عنه الإمام الشوكاني في كتابه البدر الطالع: «لو قلت أن اليمن لم تنجب مثله لم أبعد عن الصواب».
وفي يريم هذه من المآثر الكثيرة ما لا يسع المقام لحصرها أهم تلك المآثر الظاهرة مآثر قرية صرحة الأثرية التي وجدت فيها قبور في عمق الصخر ومومياءات محنطة وعقود عقيقية وفصوص كذلك لا تحصى ولا تزال تحوي بعض المآثر كالسور والقبة الأثرية والأحجار المحفورة بالنقوش المسندية والجامع الأثري البديع وهي تحتاج إلى موضوع خاص بها قد نتناوله مستقبلاً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.