في رحلة البحث عن النفوذ إلى قلب المتلقي واختراق روحه ووعيه، لا اعتقد أن هناك رحلة أكثر تكليفاً من هذه الرحلة أوهذا السفر الذي يتجمش الشعراء من خلاله الصعاب نحو العقول والأفئدة، وتعد هذه الرحلة من أصعب الرحلات نظرا لأن العقبة كؤود، والسفر طويل، وتجمش عنائها ليس بالأمر اليسير أو السهل ، مثل هذه الحقيقة جعلت كثيراً من الشعراء أمام مسئولية إعداد العدة لمثل هذه الرحلة التي يريدون من خلالها النفوذ إلى المتلقين والمتذوقين إذ هم من يحكمون على الوصول الآمن، أو هم من يحددون سلامة الوصول من هذه الرحلة الطويلة التي ينصب لها الشعراء شراكهم عميقا في بواطن النفوس، ومدافن الروح بكل دقة وعناية، من خلال استجماعهم لجميع أدواتهم، وتمنطقهم لكافة أسلحتهم وعددهم، إنها رحلة الشعراء المكتوب لها بالفشل والإخفاق مسبقاً إن أقدم إليها لشعراء وهم خالون الوفاض مما يمكن أن يبلغهم رحلتهم تلك.. مثل هذه الحقيقة لا أعتقد أن شاعراً كالأسودي له حضوره المتقدم والريادي في المشهد الأدبي بين الشعراء قد أغفل من جانبه هذه الحقيقة التي أصبحت اليوم كالشمس في ضحاها بادية للعيان في رابعة النهار، إنه كما أسلفنا كغيره من الشعراء الأفذاذ قد جعلوا هامشاً واسعاً من مساحات إنتاجهم لهذه الحقيقة التي يجب أن يراعيها الشاعر في جميع شعره، وهل الشعر إلا فاكهة يحاول الشاعر عبر تقشيرها أو عصرها أو تقطيعها بحسب ما يستدعيه المقام أن يقدمها لضيوفه، وهل هناك إنسان أحسن الضيافة، وأجاد في الاستقبال، وتفنن في الترتيب والإعداد لنزلهم، أن يتحدث عنه ضيوفه بالهمز واللمز عن تقصيره، وهكذا الشعر جيده ورائعه ما حفي بالعناية والاهتمام من قبل ناظمه، فإن الطريق لا شك ستكون ممهدة أمامه للنفاذ إلى عقل وقلب ووجدان المتلقي، وهذا الذي فهمه وعقله شاعرنا فكان له ما أراد.. فعلى مدار حلقتين تحدثنا فيما سبق عن الشعرية الطافحة في قصيدتين من قصائد الشاعر عبد الفتاح الأسودي، الشاعر العتيق الذي استطاع أن يثبت كم أن جمال المكان وطننا الصغير والكبير يزداد حسناً وبهاءً ووهجاً وألقاً عندما تهوى إليه الأفئدة بلغة شعرية ساحرة.. في هذه الوقفة والأخيرة نحاول بعناية أن نسبر أغوار قصيدة أخرى من قصائده الوطنية عبر انتقائنا لواحدة منها، وهي كأخواتها تحمل في طياتها كثيراً من جوانب الفرادة والتميز لمجراها الوطني، الذي سكب من خلاله الشاعر أطيب خمره اللغوي الذي يسكر النفوس ، ويجعلها تذوب صبابة في تذوقه واحتسائه، إنه الشعر سوط الشعراء الناعم الذي يلهبون به أظهر الناس وقد أسلموها دون اعتراض منهم ، للمتعة واللذة التي يجدونها من هذا الضرب “ التذويق “ القصيدة عنوانها “ مَوْطِنِي يَا دَهْشَةَ الدُّنْيَا “ فيه يأتي الوطن ذا ارتباط كبير ووثيق بالشاعر أولاً ثم بالشعر الذي يصور ذلك الوطن ، إذ إنه بمثابة الأغنية في وجدان الشاعر بالدرجة الأولى.. فيقول في مطلعها: للْمَعَانِي أَنْ تُثِيْرَ المَطَرا فَالْهَوَى شَفَّ الذُّرَى ، والشَّجَرا فَرْحَة أَزْجَيْتََها يَا مَوْطنِي فِي شِغَافٍ ، باِلْغَرامِ انْصَهَرا أَنْتَ فِي وِجْدَانِهِ أُغْنِيَةٌ تَمْلأ الْقَلْبَ ، وَ تَرْوِي الْعُمُرَا مِنْ مَرَايا حَضْرَموتَ اشْتَعَلتْ فَارْتمَتْ فِي حِضْنِ صَنْعَا وَترا كُلُّ قََلْبٍ طاَهِر يَعْزِفُهَا مُنْذُ كَانَتْ فِي الأَقَاصِي قَدَرَا في هذا السياق جميل بنا أن نستدعي بعض الحقائق التي ستكون مدخلا ومعينا لنا في إبراز جواهر الجمال في هذه القصيدة ، فكلنا يعرف أن مما يتفق عليه النقاد أن الأسلوبية كأحد أركان البيان تستند إلى ازدواجية الخطاب، حيث نجد مجموعةً من الألفاظ يمكن للمتكلّم أن يأتيَ بواحدٍ منها في كلّ جملة من جمل الكلام، و يمكن أن تقومَ واحدةٌ مكان الأخرى، فاختيارُ المتكلّم والكاتب ( المرسل ) هذه المفردةَ دون الأخرى يخضع لخصوصية أسلوبه، فتدرس الأسلوبية هذا الاختيارَ وتبيّن دلالتَه و أثرَه الفنيَّ في المرسَل إليه. وشاعرنا من خلال هذه الحقيقة نستطيع القول إنه قام بعملية ربطُ الألفاظ ببعضها وعبر تنسيقات محكمة البناء الشيء الذي مكنها من تشكّيل نسيجاً يتسم بمميّزاتٍ تميّزه عن أسلوبٍ آخر، وهو أمر يُعدُّ مؤشّراً معتبرا على أدبيّة النصّ و نضوجه بفضل خروجه عن النسيج اللغوي العادي وأول ما نلاحظ ذلك في البيت الأول : للْمَعَانِي أَنْ تُثِيْرَ المَطَرا فَالْهَوَى شَفَّ الذُّرَى ، والشَّجَرا ناهيك عن البنية الشعرية للغة الشاعر التي أراد منها تضمين مبدأ الانزياح كأسلوب مناسب لاستيعاب المفردات التي ساقها و هذا ما يتجلّى في علاقةٍ المفردات مع بعضها ضمن السّياق ، فكلمة ( المطرا) لا تشكّل انزياحاً إلا إذا أُسند إليها فعلٌ لم يعتدْ أن يُسندَ إليها مثل ( للمعاني أن تنير ) ليتشكّل انزياحٌ يُسمّى في البلاغة استعارةً ،فعلاقة( المطر ) مع فعل (الإنارة ) يمكن دراستُها ضمن مجال الدّرس الأسلوبي، فوظيفتُه أي ( علم الأسلوب ) تبيانُ الوظيفة التأثيرية و الجمالية و الدّلالية لهذا الانزياح كما يقرر ذلك فقهاء النقد ، وهذا الذي جعل الشاعر من خلال بدايته السابقة إلى أن يمتلك ناصية اللغة ومنذ الوهلة الأولى، وعلى ذلك النحو نجد أكثر أبيات القصيدة فقط ما عليك إلا أن تدقق وتنقب وستدرك ذلك . صَاغ َمِنْكَ اللهُ وَجْهَ الزَّمَنِ يَا وُجُوداً عَامِراً بِالْمِنَنِ مَوْطِنٌ يفتَرُّ عَنْ أَفْئِدةٍ مِثْلمَا الصُّبْحِ بِوَجهِ الْمِحَنِ مَوْطِنٌ يَنْمَاز فِي حِكْمَتهِ لَمْ تَكُنْ إلا لِشَعْبٍ فَطِنِ ! مَا أَتى لِلْمُصْطَفى مِنْ أحَدٍ مُؤْمِنٍ إِيمَانِ أَهْلِ ِ الْيَمَنِ كُلُّ أَلْوَانَ الْجَمَال ِامْتزَجَتْ فِيكَ يَا لَوْنَ الْهُدَى ، يَا وَطَنيِ في المقطع السابق نجد أن الشاعر قد استخدم أسلوباً غير أسلوب المقطع الأول فيا النداء التقريرية كما في “ يَا وُجُوداً عَامِراً بِالْمِنَنِ، يَا لَوْنَ الْهُدَى، يَا وَطَنيِ” فيه إشارة إلى ان الشاعر يريد أن يقول للمتلقي عبر هذه الياء إلى أنه مهما حاول الشعراء من إبراز واستحداث أوصاف تليق بمقام الوطن فإن هناك من الصفات ما تغني عن أي وصف ، لذلك عدل الشاعر عن الإتيان بجديد في وصف وطنه وقام بالتعريج مقررا وعبر الياء آنفة الذكر أوصاف هذه الوطن الذي من البديهي أنه وجود عامر بالمنن، وفيه لون الهدى، وأنوار لحكمة وغيرها مما جاء الشاعر على ذكرها.. مَوْطِني، يَا مَهْرجاَنَ الشَجِنِ يَا نُصُوصَاً مِنْ بَهَاءِ الْمُدُنِ يَا غَرَاماً ، بِالْهَوَى مُتَّقِدَاً فِي حَنَايَا خَافِقٍ مُرْتَهَنِ تجَتلي رُوْحُ الْمَدَى مِنْ عَبَق مِنْهُ ، مِنْ أَذْكَى الْبَخُورَ الْعَدَني مَوْطنِي فِي كُلِّ أَمْر جَلَل يُدْهِشُ الدُّنْيَا بِدِرءِ الْفِتَنِ ظَلَّ يَسْمُو لِلعُلا ، فِي زَمَن لَمْ يَزَلْ رَهْنَ الدُّجَى ، وَ الْوَهَنِ يتجلى البعد الجمالي لهذا المقطع في ارتباط صيغ “ المهرجان ، الغرام ، السمو “ بأسماء رائعة تعطي وقعاً على نفس القارئ وتترك فيه أثرا بديعا من خلال مفردات (الشجن ، الهوى ، العلا) ليأتي - كعادته كما كان حضوره في المقطع السابق – حرف الياء كإضافة رائعة أضفت على المقطع حركة ديناميكية ذات إيقاع رائع “ يَا نُصُوصَاً مِنْ بَهَاءِ الْمُدُنِ، يَا غَرَاماً ، بِالْهَوَى مُتَّقِدَاً “ شَعْبَنَا يَا قَامَةً مِنْ شِمَم يَا جِبَاهاً تَزْدَهِي بِالْهِمَم ِ يَا نَشِيْداً رَائِعَاً فِي فَمِنَا إذْ نُغَنِّيْه حِيَالَ الْعَلَمِ نِعْمَ أَجْيالٌ تَوَالَتْ ، وَ مَضَتْ تَغْمُرُ الدُّنْيَا بِفَيْض الْكَرَم نِعْمَ شَعْب بِالْهُدَى مُنْشَغِلٌ رَائِدٌ لِلسِّلْم بَيْنَ الأُمَم لَيْسَ يَسْعَى فِي شِقَاق، وَ نَوىً بَلْ إلى خَيْرٍ عَمِيْم ِ النِّعَم عندما نبحث عن جماليات هذا المقطع ومضمونه الرقيق في المعنى، نلمس مدى ما يتمتع به الشاعر من إبداع يجسده في مقطعه هذا الذي يعد كنزا ثمينا نتلذذ بقراءته. وفي تجربة الأسودي التي بين أيدينا سيدرك القارئ أن ما نقدمه إنما هو أنموذج لما نريد أن نقرره من خلال شعره، كما يعبر عن إحساسه بدور اللغة في التركيب الشعري وفي عملية الابداع والخلق الفني، من خلال دور اللغة في بناء العمل الشعري واقترابه من ذهن ووعي المتلقي . كَمْ تَجَاوَزْنَا مَدَارَ الظُّلَمِ وَابْتَعَدْنَا عَنْ دُرُوب الألَم ِ كَمْ بِأخْلاق الْمَعَالي اتَّصَفَتْ أُمُّنَا بِلْقِيسُ ، بِنْتُ الشِّيَم وَاكْتَسَى الإنْسَانُ مِن رَوْنَقِهَا بَيْرقَ الْعِزِّ ، وَثَوْبَ الْقِيَم إِخْوَة فِي الله ، مَا فَرَّقَنَا حِقْدُ وَغْدٍ ، أَوْ غَشُوم سَقِمِ مَا رَضَعْنَا مِنْ عِدَاءٍ أبَداً بَلْ أرَقُّ النَّاسِ مُنْذُ الْقِدَم ِ ببساطة آسرة تنزع قصائد الشاعر الأسودي قبضة التعقيد عن الأشياء من حولنا وتعيد لنا متعة الدهشة الأولى للاكتشاف من خلال إعادة خلق للعلاقات التي تربط بيننا و بين موجودات المكان وتفاصيل الوطن. الإنزياحات التي تحققها قصائد الشاعر تبين جانبا كبيرا وطافحا من الشعرية الجميلة التي تجعل من فعل القراءة مغامرة تدفع بوعي القاريء الى مستويات أعلى من التكثيف و الرهافة. وإن أنسى فلا أنسى - قبل أن أنهي هذه الرحلة المتواضعة مع شعر الأسودي - من الإشارة إلى أنه من المعيب أن يكون من الشعراء اليمنيين نفر بحجة الحداثة والمواكبة أن يقدموا للمتذوق اليمني موضوعات بعيدة كل العبد أولا عن الشعرية وثانيا اهتمامه وما يمكن ان يخدم من خلال شعرهم فيبدو شعرهم في كثير من الأحيان عبارة عن عناوين بلا مضامين، أو مظاهر بلا مخابر، وفرق بين هؤلاء ومن سير شعره لخدمة قضية، وطوعه من أجل رسالة، كأن يوقفه لإبراز عالم الجمال الساحر الذي تمتاز بها ربوع السعيدة في جانب من جوانب شعره ، في الوقت الذي تستعد منظمات دولية لاستبعاد صنعاء القديمة ومدينة زبيد من قائمة المدن العريقة تراثيا على مستوى العالم بسبب إهمالها من الجهات المسئولة إن بين “معزوفة الزمان “ و”في ربوع الحالمة “ و” مَوْطِنِي يَا دَهْشَةَ الدُّنْيَا “ مسافات مختصرة من الإبداع ، وخطوات متقدمة من الفنية الشعرية التي استطاع شاعرنا أن ينتصب لها شاعرا فذا لم يترك مستوى من مستويات اللغة ولا مسارا من مساراته إلا ولجه ودلج إليه وحاوله جاهدا سعيا منه لتقديم نص ذائق الجودة ، ومحكم الهيكلة الأمر الذي جعله يعود بالمتعة والنشوة على المتلقي ، أمور مجتمعة جعلت القارئ يألف هذا الشاعر الجميل الذي استطاع أن يؤثر فينا لكثرة المران ، ودقة الدربة عنده ، وهو بكثرة دقه على وتر الوطنيات ، وأنغام المكان الساحر الذي تتمتع به ربوع السعيدة ينطبق عليه قول الشاعر: ألم تر أن الماء من تكراره على الصخرة الصماء قد أثرا كذا الحبل إن تحمل به ماء على حجر تنحت فيه أخدودا له غيرا إنه ومن خلال وطنياته وجمالياته قد ترك فينا ما يشبه الأخاديد التي استطاع أن يجري فيها كثير من فنه الرائع ، فكم أتحفنا الشاعر بقصائد شدا به لوطنه ومكانه الجميل ، لقد أثر فينا الشاعر الأسودي أيما تأثير ، وكان لقصائده وقع علينا أيما إيقاع.