حين يتعلق الأمر بعقلية المجموع الذي قبل جزءاً كبيراً منه بالارتهان لمعيارية نصيبها من الصواب يكاد أن يقترب من العدم ؛ يكون من الضروري التنبه والتنبيه لتلك الظاهرة الاجتماعية الغالبة والمسيطرة أعني : الشكلانية المفرطة والمتصلة بمجتمعاتنا والمعيقة في كثير من الأحوال لمشاريعنا وطموحاتنا نحن العرب والمسلمين. سلبيات كثيرة وأخطاء لا حدود لها تنجم عن شكلية الرؤى والمفاهيم وسطحية القناعات والقيم؛ ليتضح جلياً ، لكل ذي لب ، مدى خضوع عقلية الإنسان العربي لسلطة المظهر، فهو حينما ينفر من قناعة أو يأخذ بحكم قيمي لا يعمل عقله ولايبدي أدنى اهتمام فكري تجاه الموضوع أو القضية التي عليه اتخاذ موقف محدد حيالها، مكتفياً فقط بما يعطيه الظاهر من مؤشرات ليقيم عليها نتائجه، فالحقيقة لديه فيما يرى فيما يسمع فيما يحس وماعدا ذلك ليس إلا ضرباً من السفسطة ، ومضيعة للوقت. و ما هذا إلا بسبب الكسل والخمول الذهني المسيطر على عقلية السواد الأعظم من الناس حيث يغدو العقل المدقق المحلل والعين الفاحصة المتأملة صفة لايتسم بها إلا قلة قليلة ممن نجو لسبب أو لآخر من الوقوع في قبضة هذا المرض العضال وهؤلاء كثيرا ما ينعتون من قبل المجتمع بالشذوذ فقط لأنهم خرجوا عن السائد وجاوزوا حدود المألوف. أما مدى الاقتراب من الصواب فلاقيمة له مادام الأمر يتعلق بمناهضة ومقاومة ماهو من الإجماع والشيوع بمكان.تتجلى خطورة التأزم الفكري في قدرته على الفتك بروح هذه الأمة إذ إنه يمثل بما يصاحبه من ميل شديد للخمول و جنوح خطير للظاهر وتبرم وعجز عن التحليل والتأمل في كل ما يرتبط بالحياة دينياً وسياسياً واجتماعياً ... كل هذا يجعل منا أمة أقرب إلى الموت منها إلى الحياة. وما لم يتم التنبه والتنبيه لخطورة وعواقب الرزوح تحت وطأة مثل هذا المرض المنذر بشل كافة القوى العقلية فإن مصير أمة بأسرها سيكون مهدداً بالانقراض الفكري والبقاء خارج التاريخ والزمن بغير فاعلية أو حضور حقيقي. إن الشكلية حاضرة في شتى مناحي الحياة وهي تفسد على الإنسان جمال فطرته وسحر تلقائيته ليحصر الإنسان بشكله والحياة بمظاهر معدودة والسعادة بأشياء غير متصلة بعالم الروح فالمادية وحدها سبب وحيد وكفيل برفع قيمة المرء في نظره أوفي نظر من هم حوله . ولك أن تتأمل في المناسبات الاجتماعية وما يصاحبها من مظاهر احتفالية تنفق الأموال الكثيرة ويبدد الوقت والجهد في سبيل الظهور أمام الآخرين بالمظهر الملائم واللائق وكأن مكانة الإنسان وقيمته تتحدد وفق ما يستطيع شراءه أو تبديده وبالتالي فإن نجاح العرس مثلا مرتبط بنجاح الإعداد له بالمجيء بشتى المظاهر الاحتفالية حتى ولو كانت على حساب راحة الزوجين بعد الزواج حيث تثقلهما الديوان وتعكر صفو حياتهما الهموم. والتكلف في الإعداد للمناسبات الاجتماعية لا يتوقف عند حدود المفرح الباعث على البهجة والسرور بل يتعداه ليصير لزاماً حتى حينما يتعلق الأمر بالحزن لوفاة شخص ما فيفتح العزاء وتذبح الذبائح وتقام الموالد... وتأخذ الشكلية منحى أشد خطورة حين تتحول تحت تأثيرها العملية التعليمية بكامل مكوناتها إلى آلات تفتقد الوعي بحقيقة العمل الذي تقوم به لتتحول المؤسسة التعليمية إلى سلطة دكتاتورية يمارس فيها المدرس وظيفته كقامع لكل من يحاول أن يفكر أو يناقش أو يعارض، كما أن همه الأكبر وشغله الشاغل الحفاظ على صورته المهابة والمحترمة لحد التقديس في نفوس طلبته، فالدراسة لديه لا تعدو حدها الصوري في سرد معلومات أكل عليها الدهر وشرب ومظاهر من التوقير والتبجيل، وكل ما يأتي منه خير، وكل ما يقوله صواب غير قابل للنقاش أو الرد.والطالب أيضاً في الحرم المدرسي أو الجامعي قد اعتاد على شكلية مفرطة في كافة ماله صلة بأمور الدراسة من زي مدرسي، ودوام دراسي، وحسن إصغاء، وطاعة عمياء، ومقررات تحفظ، وواجبات تنجز... يرافق هذا غياب تام وإقصاء كامل لشخصية الطالب وذاتيته وقدراته الإبداعية الخاصة مما يفرغ الرسالة السماوية هذي من محتواها ، ويفقد وظيفة الرسل جوهرها الأصيل. ومنذ المراحل التعليمية الأولى يتم تنشئة الطلبة على التلقي كوسيلة أثيرة لاكتساب العلم فهو لا يتعلم كيف يفكر بل كيف يتلقى ؛ وليس من حقه مناقشة الأفكار التي يدرسها وليس من اختصاصه أن يقارن أو يحلل أو يبحث وحتى الدروس المتطلبة للتجربة والتطبيق فإنه سيكتفى بتبيانها على الصعيد النظري لا العمل. وكأن وظيفة الطالب والسمة اللصيقة به هو بقاؤه كرسيا على كرسي وما يميزه عن سائر الجمادات مقدرته على هز الرأس مع كل عبارة يلفظها المعلم . وأخيرا فإن نجاح الطالب وتفوقه مرتبط بمقدرته على حفظ المقررات الدراسية بعيدا عن وعيه بذاته ، وإدراكه لمن حوله ودرايته بموقعه الحقيقي في المجتمع والعالم و العالم ، ليكمل دراسته وهو لا يدري لماذا درس ، وليفنى عمره وهو لا يعرف لماذا عاش..!