كثيرة هي الدراسات التي اعتنت بتفسير حركة التاريخ، وحاولت أن تؤطر الفعل التاريخي بقوانين وقواعد ثابتة، ولا شك أن حركة التاريخ لها قوانينها وقواعدها، ولاشك أيضاً أن التحولات التاريخية الهامة في حياة الأمم والشعوب قد جاءت نتيجة للأخذ بأسباب معينة، والقرآن الكريم يلفت أنظارنا إلى ذلك بحديثه عن السنن الكونية في الحياة كسنة التدافع، وسنة الاستبدال، وسنة الأجل، وغيرها من السنن التي يذكرها القرآن الكريم في سياق تفسير حركة التاريخ وقوانين التحول في حياة البشرية. لكن الإيمان بسنن التاريخ لا يعني انضباط حركة التاريخ على نحو ميكانيكي، ومن يتأمل في التاريخ يرى أحداثاً غريبة ووقائع مدهشة، يقف العقل أمامها حائراً، وينفسح المجال فيها للميتافيزيقيا لتعلو كلمتها على كل التحليلات والتعليلات المنطقية. وفي قصة تيمورلنك مثال على مفاجئات التاريخ وأحواله الغريبة،فتيمورلنك التتري كان ذا بأس شديد وقوة باطشة، ولكن قوته تلك لم تخدم أحداً كما خدمت أوروبا! فقد كان سيف الرهيب يهوي دائماً على أعداء أوروبا كي يمنعهم من الوصول إليها! فالملك المغولي طغطاميتش عندما كان في طريقه إلى غزو أوروبا تصدى له تيمورلنك ومزق جيشه شذراً مذراً! وعندما جمع السلطان العثماني بايزيد جيشاً من خمسمائة ألف مقاتل لغزو(فينا) وقف في وجهه تيمورلنك وتمكن من إلحاق الهزيمة بالجيش العثماني ومنع بذلك بايزيد من غزو أوروبا في عقردارها! وما من شيء منطقي يفسر تصرفات تيمورلنك الذي يبدو كمدافع عنيد سخره القدر ليدافع عن أوروبا، ولقد كان بإمكانه أن يتوجه بجيوشه نحو الصين حيث كان ملك جده جنكيز خان، أو نحو الهند حيث هنالك أكثر من فرصة متاحة، وفي كلتا الحالتين كانت ستكون المهمة أسهل عليه من مهاجمة مملكة المغول أوالدولة العثمانية، لكنه أبى إلا أن يتصرف على ذلك النحو الغريب جاعلاً قوته وبأسه الشديد في خدمة أوروبا! وقد تساءل المفكرالكبير(مالك بن نبي): لماذا حال تيمورلنك دون قيام بايزيد وطغطاميتش بنشر الإسلام في قلب أوروبا وقد كان بإمكانه أن يتجه بقواته نحو الصين التي هي من مخلفات جده جنكيز خان، وحينها سيكون سلوكه مفهوماً حيث هنالك دواعٍ عديدة أهمها: الحق الملكي، والطموح، وسهولة الغلب دون غرم. ومن وجهة نظر مالك بن نبي فإن تيمورلنك قام بعمل لم يكن يستطيع إدراكه حتى بعد انتهائه منه؛ لأن مغزاه التاريخي لم يظهر إلابعد قرون! ويخلص مالك بن نبي إلى القول: إن تيمورلنك تصرف على ذلك النحولكي تتابع أوروبا المسيحية جهدها الحضاري الذي لم يكن العالم الإسلامي بقادر عليه منذ القرن الرابع عشر،حيث كان في نهاية رمقه، فملحمة الإمبراطورالتتري تجلو غاية التاريخ، إذ كانت نتيجتها متطابقة مع استمرار سير الحضارة ودوامها، كيما تتعاقب دوراتها، ويتم الكشف الخالد عن العبقريات التي تتناوب على طريق التقدم! وقصة الدعوة الإسماعيلية(الفاطمية) في اليمن هي مثال آخر على الجانب الميتافيزيقي في التاريخ ، فهذه الدعوة التي قامت في اليمن على يد أبي القاسم الحسن بن فرج بن حوشب الملقب بمنصور اليمن، كادت أن تنتهي على يد ولده الحسن الذي أعلن خروجه عن الدعوة الإسماعيلية واعتناقه لمذهب أهل السنة والجماعة، ثم أخذ يتتبع أتباع الدعوة الإسماعيلية بالقتل والتشريد حتى كاد أن يفنيهم! وبينما الدعوة الإسماعيلية تعيش أسوأ أيامها وأصعب ظروفها إذا بالقدر يفاجئ الجميع بانضمام علي بن محمد الصليحي إلى الدعوة، وكان انضمامه بداية تحول حقيقي في مسار الدعوة الإسماعيلية باليمن، ويكفي أنه على يديه قامت للدعوة الإسماعيلية دولتها الوحيدة في اليمن (الدولة الصليحية)،والمفارقة هنا أن علياً بن محمد الصليحي نشأ وتربى في بيئة سنية، وكان أبوه محمد قاضياً سنياً، ومن علماء الشافعية، وكان مطاعاً في قومه، حتى قال عنه عمارة اليمن: إن أهل حراز كانوا أربعين ألفاً يدينون له بالطاعة. وحقاً إنها لمفارقة ميتافيزيقية عجيبة أن نرى ابن زعيم الدعوة الإسماعيلية ينقلب على الدعوة، ويكاد يقضي عليها ويفني أتباعها، ثم يأتي الفرج لأهل الدعوة على يد ابن عالم وفقيه سني كبير! وتحقق الدعوة علي يديه من المكاسب والانتصارات وزيادة عدد الأتباع وإقامة الدولة ما عجز عن تحقيقه كل دعاة الإسماعيلية السابقين واللاحقين! [email protected]