كنت أظن أنني عرفت الكثير عن تفسير التاريخ حتى اطّلعت على بحث بعنوان “القوة المحركة للتاريخ القهوة” كتبته هديل غانم في مجلة (وجهات نظر) العدد 49. ونحن سمعنا من كارل ماركس عن التفسير المادي للتاريخ, كما قرأنا لجلال كشك في مجلة (الحوادث) في الثمانينيات عن التفسير النفطي للتاريخ, وقد يصلح لأيامنا هذا مع الزحف الأمريكي على المنطقة. كما كتب المؤرخ ادوراد كار عن “التفسير الجنسي للتاريخ” وأثر أنف كليوباترا لينتهي إلى العنصر الغيبي في تحريك التاريخ. أما مالك بن نبي فقد ذهب في كتابه “وجهة العالم الإسلامي” إلى إرادة إلهية خلف الأحداث, وهناك شيء اسمه عمى التاريخ, وهو ليس بعمى مثل اصطدام تيمورلنك مع بيازيد الثاني في معركة أنقرة عام 1402م وكلاهما تركي ومسلم, ولكن اصطدام الجبارين أنقذ الجنين الأوروبي من الموت, لأن بيازيد كان يستعد بنصف مليون جندي لاجتياح أوروبا في عز الدولة العثمانية وأشد سطوتها, وبعد هزيمة أنقرة استراح العثمانيون ورمموا قوتهم ولكن بعد فوات الوقت. والجديد في تفسير التاريخ الذي تقدمت به السيدة هديل هو التفسير القهوجي للتاريخ, وظننت أنا في البدء أنها مزحة, ولكن الكاتبة طرحت وجهة نظر بمصادر موثقة وبلغة سلسة لا تترك القارىء حتى يخلص من البحث, فهي تستعرض تاريخ اكتشاف القهوة على يد معزة في أثيوبيا, فقد انتبه الراعي إلى نشاط غير عادي لمعزته عندما تمضغ نبات أحد الأشجار وكان هذا قبل ألف عام, وهذا يعني بكلمة ثانية أن القهوة والشاي لم تكونا معروفتين أيام بعثة الإسلام. ومن مدينة كيفا في الحبشة تطورت معرفة القهوة أكثر وأخذت اسمها من المدينة كيفا.. كوفي.. ثم انتقلت إلى اليمن بالجهة المقابلة للقرن الأفريقي, حيث زرعت في ميخا, وهي الآن تأخذ اسم موكا, ومنها انتقلت في كل الإمبراطورية العثمانية, ومن هذه الحبة السحرية التي توقظ الخمول دب النشاط في مفاصل الخلافة, هكذا تقول الكاتبة, واليوم استبدل اليمنيون زراعة القهوة بالقات فهلكوا!!. ثم حصلت واقعة خطيرة حينما حاصر العثمانيون فيينا عام 1683 وانهزموا بخيانة بولوني وجيش من بولندا من ستين ألف فارس قادهم يوحنا سوبسكي الثاني بعد أن كان الأتراك يحفرون تحت أسوار فيينا ليفجروها, ومكافأة له فقد طلب أكياس القهوة وظنوها أنها علف للخيل ومنها افتتح في النمسا أول مقهى, ومن النمسا دخلت القهوة إلى بريطانيا. وتقول الكاتبة إن أوروبا كانت تعيش على الخمر فتحتسي الجعة, وهي تحرض على العنف وتقتل الدماغ, ولكن القهوة على العكس تحرض العقل على النقاش. ومن المقاهي الأولى في بريطانيا انطلق الفكر السياسي الحر, وكان فولتير يشرب يومياً 40 فنجاناً. وتأخرت بريطانيا حينما استبدلت القهوة بالشاي, وأمريكا الآن أنشط الأمم لأنها أكثر الأمم تناولاً للقهوة ولم تدشن استقلالها إلا برمي صناديق الشاي البريطانية في ثورة بوسطن. مع هذا تستدرك الكاتبة أنه من التسطيح بمكان أن نفسر التاريخ بعنصر واحد, وهذا عقل منها, وفي تاريخ القهوة نرى العكس, فحيث انتشرت زراعته استخدم العبيد في أقسى الظروف. ولا يمكن وصف اليابانيين أنهم كسالى لأنهم لا يحتسون مثل الأمريكيين القهوة, والحاصل أن حركة التاريخ هي توليفة وتراكب مجموعة من العناصر أشار إليها مالك بن نبي بشكل عام, أي تفاعل التراب والإنسان والزمن بموجب شرارة روحية. “وكذلك أنزلنا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان”.