الفنان الكبير ثائر كبير بالضرورة، والثورة إن لم تكن ثورة في الوعي وفي الفعل وفي التذوق، فليست أكثر من اضطراب سياسي، الثورة لدى الثائر الملهم تحوّل كبير، يستند على تغييرات جذرية في الرؤى والممارسات الحاكمة، والثقافة المنتجة لها، وليس التغيير السياسي سوى مظهر جزئي عفوي لهذا التغيير الشامل العميق في المكونات والعلاقات والقيم السياسية والاجتماعية والثقافية السائدة. والبردوني ثائر ملهم كبير، كان كذلك وهو يحث النظام الإمامي باللين والمواجهة، على الإصلاح والتغيير، وكان كذلك وهو يبشّر بالثورة، ثم وهو يحتفل بها، ثم وهو يرشّد مسارها وينتقد انحرافاتها، بكل حزن وغضب وصراخ نازف.. وحتى في غمرة يأسه كان ثورياً بحجم خيبة أمله، وتوهج فنه وعبقريته. ورغم أن البردوني (1929 1999-م) وُلد لأسرة بائسة، في عصر بائس، وترعرع ذلك الصبي الأعمى، ونال تعليمه بمشقة بالغة، إلا أنه استطاع مبكراً بموهبته الشعرية، أن يكون شخصية مؤثرة لفتت نظر مراكز القرار، وكان من الطبيعي أن يتصل بهذه المراكز، كغيره من الشعراء الكبار ضمن علاقة ودية طيبة. وكما فعل الشاعر الكبير الزبيري، كتب البردوني في تلك الفترة المبكرة من حياته الشعرية قصائد كثيرة، في أغراض مختلفة، منها ما يتعلق بموقفه من السلطة السياسية في عهد الإمامة تأييداً ورفضاً، مدحاً وذماً، والتأييد سبق المعارضة، وتجدر الإشارة هنا إلى أن قصائد الشاعر في دواوينه الأولى غير مرتبة تاريخياً، وقد يعطي هذا انطباعاً خاطئاً بانفصام مواقف الشاعر، ويحتاج الأمر إلى إعادة ترتيبها حسب تواريخها المذيّلة بها لتلافي هذا الانطباع الخاطئ. في الديوان الأول للشاعر (من أرض بلقيس) تتجاور القصائد المتضاربة في الأئمة جنباً إلى جنب، ونجد الشاعر متحمساً للتنوير والقومية العربية والنهضة، وهي المبادئ التي ربما توسَّم الشاعر في الأمير(البدر) الأمير المتحمس للقومية والناصرية, التطلع إليها، فمدحه في قصيدتين رائعتين الأولى (عودة القائد) كتبها عام ( 1377ه )، وفيها يبدو البدر محبوب الشعب المتربّع على قلوب الجماهير، الفارس والقائد الملهم : يا من تشخَّصت المنى في شخصه ... وأهَلَّ فجر عدالةٍ وتحرّرِ ثم يمضي في تمجيد بطل الخلافة، ويحرّضه على تحقيق الوحدة العربية، وتحرير الجنوب اليمني من الاستعمار، وكان قد كتب عام( 1375ه ) فيه قصيدة (الربيع والشعر)، وقدمها بمقدمة قصيرة تشف عن موقفه من ثورة (1955م) الشهيرة التي حاولت الإطاحة بالإمام أحمد في تعز، واصطياد ولي عهده البدر في الحديدة، وكانت القصيدة بمثابة تهنئة ومدح للبدر بمناسبة نجاته من قبضة الثوار، ورجوعه إلى صنعاء : وافاك مجتمع البلاد فرنَّما ... وصبا إليك مسبِّحا ومتيَّما وتدافعت صنعا إليك كأنّها ... حسناء مغرَمة تغازل مغرَما فالبدر فجرٌ من الجذل، وفردوس من السعادة، ونور إلهي يمحو الظلمة والشرور ويؤسس الفضيلة والسمو... وما من شك أن علاقة الشاعر بولي العهد البدر كانت مستقلة عن علاقته بأبيه الإمام أحمد، وربما طمح في الولد أن يصلح ما أفسده أبوه، وأن يحقق القيم التي مدحه بها، وهي القيم التي توسَّمها شعراء آخرون ثوار في البدر وفي أبيه. وفيما يتعلق بالإمام أحمد فليس للشاعر إلا قصيدة واحدة في الثناء عليه ومدحه في سياق الدعوة إلى الوحدة العربية التي عُقِدت بشأنها قمة ثلاثية ضمت الإمام أحمد وجمال عبد الناصر والملك سعود، ربما عند توقيعهم الحلف الثلاثي أو ما عُرف بميثاق جدة (1956م)، وبالمناسبة قال فيهم البردوني في قصيدة(البعث العربي): فابن يحيى مؤزرٌ بجمالٍ ... وجمالٌ مؤزرٌ بسعودِ واذكري في المعارك سعدا ... وعلياً وخالد بن الوليد كان عام ( 1378ه ) على الأرجح عاماً فاصلاً في حياة الشاعر السياسية وموقفه من الإمامة، وربما يئس من أي أمل في قابلية هذا النظام للإصلاح، فطفق يوجِّه نحوه جام غضبه بكلمات شجاعة ونقد مغامر جريء، وفي هذا العام أرسل أولى قصائده الناقدة بخبث إلى الإمام أحمد في (عيد الجلوس): عيد الجلوس أَعِر بلادك مسمعاً ... تسألك أين هناؤها هل يوجَدُ ؟ تمضي وتأتي والبلاد وأهلها ... في ناظريك كما عهدت وتعهدُ يا عيد حدِّث شعبك الظامي متى ... يُروى، وهل يرُوى، وأين الموردُ؟ وفيها يواجه الإمام أحمد بأن الظلم مقدمة الثورة، وأن الشعب لن يستمر خانعاً إلى الأبد، وربما حاول الشاعر الالتفات بسياق الثورة إلى الجنوب اليمني، ولكن علاقتها بالإمام كانت واضحة، ثم أنهى القصيدة بالدعاء لعيد الجلوس، واعتبار القصيدة تهنئة للإمام أحمد بمناسبته، معتذراً من الإمام عن حدتها .. في عام ( 1379ه )، أي قبل الثورة بثلاث سنوات، كان الشاعر قد أصبح داعية للثورة، ومحرضاص للشعب ضد الحكم الإمامي، كما يتضح في قصيدة (حين يصحو الشعب) : يا زفير الشعب حرُِّق دولةً ... تحتسي من جرحك الدامي مُداما أنت بانيها فجرِّب هدمها ... هدم ما شيّدته أدنى مراما يتجلّى الاختلاف بين هذه القصائد والقصائد السابقة من خلال تناقض المضمون المتعلق بجهة واحدة هي الإمامة، مدحاً وقدحاً، والتقابل النفسي المتباين بين قصائد المجموعتين، وتقابل الصور التي يقدمها الشاعر للائمة والشعب اليمني تحت حكم الإمامة، بين ملائكة رحمة وتجليات إلهية تحكم فردوساً من العدل والخير، وبين شياطين رجيمة ومصاصي دماء حوّلوا البلد إلى جحيم من الفقر والبؤس والحرمان، وصولاً إلى تشخيصه لطبيعة النظام الإمامي باعتباره عجوز الفكر، صبي الشر والقمع : وحكماً عجوزاً حناه المشيب ... وما زال طغيانه أمردا بثورة (26 سبتمبر، 1962م)، كانت اليمن على موعد مع ولادة جديدة، كمخاض لأنبل قيم الثورة وأرقى طموحات الثوار والجماهير، وكان يوم الثورة بالنسبة للبردوني يوماً فاصلاً بين عهدين، ولّى فيه عهد الإمامة بكل سيئاته الشريرة، وبدأ عهد الحرية والتنوير، وتجلت بين عهد الثورة وعهد الإمامة فروق وتباينات أكثر من أن تُحصى، على الأقل نظرياً، وحسب رأي الشاعر حينها: أفقنا على فجر يوم صبي ... فيا ضحوات المنى أطربي فولَّى زمانٌ كعرض البغيّ ... وأشرق عهدٌ كقلب النبي الثورة لدى البردوني تعني الحرية والديمقراطية والرفاه والعدل والمساواة .. ليست التفاصيل الأخرى مهمة، وهكذا علّق البردوني على الثورة كثيراً من الآمال والطموحات الكبيرة التي يدري أنها لا تتحقق بين يوم وليلة، بل يحتاج تحقيقها وترسيخ مبادئها وقيمها سنوات طويلة، فانتظرها وظل يترقبها بشغف سنة بعد أخرى. لكن السنوات تمر، والوليد الثوري لا ينمو كما ينبغي، بل يتحول تدريجياً إلى شيء مختلف، مسخ مرعب لا علاقة له بالثورة ولا به، ولا بالجماهير، ولا الشهداء.. الثورة تترنّح أمام الاختراقات والتحولات المحبطة، والثوار بدورهم يتحولون يوماً بعد يوم وينحرفون عن نبلهم وعن نهجهم الثوري، إلى ما حالة مفزعة مخجلة استنكف الشاعر عن ذكرها: كنتَ حسب الطقسِ تبدو ثائراً ... صرتَ شيئاً.. ما اسمه ياللخجلْ على ضوء هذه الممارسات تلاشى الفرق بين العهدين الإمامي والجمهوري، ولم تعد الثورة تعني أكثر من زيادة عدد الجلادين وتطوير وسائل القمع، ففي (مأساة حارس الملك): نفس ذاك الطبل أضحى تسعة ... إنما أخوى وأعلى طنطنهْ كنت سجّانا أدقّ القيد عن ... خبرةٍ، صرت أجيد الزنزنهْ أي نفعٍ يجتني الشعب إذا ... مات فرعونٌ لتبقى الفرعنةْ!! (تقرير إلى عام ( 71 ) حيث كنّا) كان تقريراً ثورياً عن ثورة سبتمبر التي اعتبرها الشعب نهاية عصر الظلم والطغيان، ولكن الواقع أن الذين قاموا بها، وهم رموز للحرية والإباء لم يفعلوا سوى أن أثاروا النزوات الجشعة للانتهازيين والوصوليين، ثم ناموا: .. والأباة الذين بالأمس ثاروا ... أيقظوا حولنا الذئابَ وناموا الثوار الحقيقيون استُشهدوا، أو أزيحوا بطرق مختلفة عن المشهد، كما تراجع آخرون بدرجات متفاوتة، وتناحروا بينهم حول المصالح الأنانية الضيقة، وفي قصيدة (المحكوم عليه) يقول الحارس لبعض الثوار سابقاً، وهو يراهم يعذِّبون أحد زملائهم القدامى بعد أن اختلفوا على توزيع مكاسب الثورة بينهم : مثلكم كان ثائراً فرجعتم ... نصف ميل فعاد وارتد ميلا هل تريدون قتله؟ مات يوماً مثلكم ... كيف تقتلون القتيلا؟ وخلال انقلاب الثوار على بعضهم يموت الثائر قهراً تحت سياط رفاقه الحاكمين، كما مات مثلهم تفانياً في سبيل الثورة قبل أن ينقلبوا جميعاً عليها ويتنكروا لمبادئها، إذ أن الموت من أجل المبادئ أسهل من تمثُّلها!! أصبح الانتهازيون إذاً هم قادة الثورة والوصاة عليها، وفي ذلك يستغرب رجل المخابرات من مستجدات (المحكوم عليه) : قلت : هل صار ثائراً ..؟ وعلى من !! ...وهو منّا ..هل يصبح الهرّ فيلا! وهكذا لا يصل الأمر بالثورة في عيدها العاشر، إلا وقد قطعت كل صِلاتها بكل شيء ثوري، وبكل أهداف وأحلام الثوار، وآمال الجماهير، وأطلت في ذكراها العاشرة على الشاعر بريئة من كل علاقة بها، ليكشف في (لافتة على طريق العيد العاشر) عن حجم التبدّلات والانتكاسات والإخفاقات التي منيت بها خلال عشر سنوات من قيامها: أيها الآتي بلا وجه إلينا ... لم تعد منا ولا ضيفاً لدينا سترانا غير من كنّا ..كما ... سوف تبدو غير من كنّا رأينا بمثل هذه المرارة والأسى يجسد الشاعر الإخفاقات التي طالت الثورة والناس على حد سواء، وتتجسد المرارة بشكل خالص من خلال مقابلة هذه الصورة الكائنة بما كانت عليه الثورة في بداية عهدها من إثارة أبعادها الإنسانية وقربها من الناس، وتعبيرها عن تطلعات شعب لم يعد ذلك الشعب، الذي وصفه الزبيري مرة تفاؤلاً بأنه(شعبٌ أبيٌّ، ماردٌ، شرسُ): من قيل عنه ماردٌ ... شرسٌ غدا عِهناً نفيشْ!! يمضي الذي نرجو، ويأتي ... غير ما فينا يجيشْ عاش الذي قلنا يموت ... ومات من قلنا: يعيش