ما منّا من أحد في هذه الحياة إلا وكتب عليه أن يعيش فيها بشقيها الحلو والمر، رخائها وشدتها، سرائها وضرائها، والكريم الموفق فيها من تعود حالتيها سواء كان يعيش غنياً أو فقيراً؛ فالأمر سيان طالما والجميع فيها على حد سواء أمام غوائلها وعادياتها، وصنف من الناس يسقط عند أول اختباراتها ويعلن استسلامه عند وضعه لأول قدم أمام شدائدها وضغوطها، فلا يدري بنفسه إلا وقد أصبح منهزماً، هزيمة كفيلة بأن تجعل منه في الأيام رجلاً سلبياً أبعد ما تكون عنه المسؤولية كصفة لصيقة يتميّز بها، والبعض ممن “يملك قلباً لحوحاً” كما يقال لا يدري بنفسه إلا وقد ارتمى بين أحضان الناس يستجديهم التعاون معه نظراً لعدم قدرته على الإبداع في التعامل مع المحيط الذي يكتنفه فيخفق في تحمل صعاب هذه الحياة التي عُرف عنها أنها لا تصفو لأحد من الناس؛ حتى رسول الله وصل إلينا وعلمنا كيف أنه فُجع في حياته بكثير من مصائبها وشدائدها وصعابها لكنه تحمّلها وتصبّر لها صبر الكرام وكان العلم البارز في ذلك؛ ولذلك كان من أروع الأحاديث النبوية التي تحمل في طياتها كثيراً من العزاء والسلوى للمهمومين والمكروبين قوله صلى الله عليه وسلم: “اعرف الله في الرخاء يعرفك في الشدة” والعجيب أن الله يطلب منا أن نتعرّف عليه في أوقات الرخاء وليس العكس، وإلا لكان في الأمر مشقة حين يطلب منا أن نعرفه سبحانه وتعالى في الشدة. لقد تعجبت من موقف حصل لرجل كان مسافراً بأسرته في صحراء مترامية الأطراف، وإذا بعطل مفاجئ يحدث في سيارته، وقد حاول تشغيلها لكن دون جدوى، وجلس الرجل حائراً في أمره، ولم يمض وقت طويل حتى أوقف أحدهم سيارته، وترجّل منها قائلاً: خير ما الذي حدث..؟! وحاول معه مرة أخرى في تشغيل السيارة.. ثم قال للرجل: هذه سيارتي أكمل سفرك فيها مع أسرتك، وأنا أجلس هنا عند سيارتك حتى ترسل لي من بلدك ما يمكن أن نحمل عليها سيارتك. قال صاحبنا: هذا غير معقول؛ لأنه يعني أنك ستجلس هنا قرابة عشر ساعات..!!. قال الرجل: لا بأس أنا شخص، وأنتم عائلة..!!. وأخذ صاحبنا سيارة الرجل الشهم ورقم هاتف منزله ومضى، وفي صباح اليوم التالي وضع سيارته في ورشة الإصلاح، وأعاد السيارة الأخرى إلى صاحبها. ومرّت الأيام، وتذكّر صاحب السيارة المعطوبة المعروفَ الذي صنعه معه صاحبه، فاتصل على بيته ليسأل عنه، فقالت زوجته: هو في السجن، وذكرت له اسم السجن، وفهم منها أنه سُجن بسبب الديون التي عليه. وفي اليوم التالي أخذ الرجل معه مئة ألف ريال، وذهب إلى السجن وأعطاها لضابط السجن، وقال: هذه لقضاء ديون فلان وإخراجه من عندكم. قال الضابط: من أنت؟ قال له: لا داعي لأن أذكر لك اسمي، ومضى.بعد عشرين يوماً اتصل ببيت صاحبه ليطمئن عليه، فقالت له زوجته: مازال في السجن. فما كان منه إلا أن سارع إلى السجن، وسأل الضابط عن سبب عدم إطلاق سراح صاحبه، فقال: الدين الذي عليه ثلاثة ملايين وليس مئة ألف، ثم أردف قائلاً: أنا حائر في أمري ممن أتعجب، هل أتعجب منك حين جئت بمائة ألف ريال دون أن تذكر اسمك، أو أتعجب من صاحبك السجين حين قال لي: المائة ألف لن تصنع لي شيئاً، فأرجو أن تطلق بها سراح بعض زملائي المسجونين ممن عليه خمسة آلاف وعشرة آلاف، وقد أطلقت بها فعلاً اثني عشر مسجوناً..!!. قال صاحبنا: خير إن شاء الله، وغاب قرابة شهر ثم عاد وقد جمع الملايين الثلاثة من مدخّراته ومن بعض المحسنين، وأطلق بها سراح صاحب المروءة.. إنها مواقف الحياة عندما نعترك فيها، نعركها فتعركنا وهكذا دواليك، هي الحياة إن أضحكتنا يوماً أبكتنا أياماً، والعكس صحيح، وليس المهم ذلك بقدر ما يجب علينا أن نعيش فيها واضعين نصب أعيننا ما يمكن أن يأخذنا إلى الضفة الأخرى بأمان مستأنسين بعون الله وتوفيقه. ومخطئ من يظن في هذا السياق أن الحياة في الدنيا قد تسير بلا منغصات، محال أن يحدث هذا أبداً، والعاقل من كان لسان حاله فيها كما قال الشاعر: ضل من يحسب الرضا عن هوان أو يراه على النفاق دليلا فالرضا نعمة من الله لم يسعد بها في العباد إلا القليلا والرضا آية البراءة والإيمان بالله ناصراً ووكيلا علمتنى الحياة أن لها طعمين مراً وسائغاً معسولاً فتعوّدت حالتيها قريراً وألفت التغيير والتبديلا أيها الناس كلنا شارب الكأسين إن علقماً وإن سلسبيلا نحن كالروض نضرة وذبولاً نحن كالنجم مطلعاً وأفولا نحن كالريح ثورة وسكوناً نحن كالمُزن ممسكاً وهطولا نحن كالظن صادقاً وكذوباً نحن كالحظ منصفاً وخذولا