نظر إليها نظرة سرت –على إثرها- في أوصالها قشعريرة جعلتها تتكور في مكانها وتتضاءل شيئاً فشيئاً، وتلوذ بالصمت هرباً من تلك النظرات التي لم تعهدها منه. ليست الفترة التي عاشاها معاً بالقليلة لتجعلهما يجهلان بعضهما البعض، بل إن كلاً منهما قد غاص إلى أعماق الآخر وتغلغل في مكنوناتها، وهما من يتبادلان مشاعر الود والحب بعواطفه الفياضة؛ والذي يجعل الأعين تتبادل أحاديث كثيرة دون أن تتحرك الشفاه. - ما الموضوع يا ترى؟ انتزعتها بصعوبة من بين شفتيها لتفض بها جو الصمت الرهيب الذي أحاط بهما، وكاد أن يطبق على أنفاسها هي بالذات وخصوصا أنها لا تدرك السبب لهذه الحالة العارضة التي طرأت على شريك حياتها، وجعلته يرسل كلاماً كثيراً دون أن يتحدث أو يعبر عما يختلج في أعماقه سوى بالنظرات القاسية والحاملة في طياتها دلالات كثيرة. - مرت فترة من السكون حسبتها دهراً طويلاً قبل أن يفض هو ذلك السكون قائلاً: - لابد أن نراجع أنفسنا، وأن نقف ملياً لنبحث عن حل لموضوعنا الراهن، ونحاول أن نغير من مجرى حياتنا.. وكانت إجابته تلك بنفس الصرامة التي أرسل بها نظراته سابقاً. - وما الجديد الذي رأيته في حياتنا؟ نطقتها وكأنها تنتظر صاعقة تسقط على رأسها. لم تنتظر طويلا هذه المرة فقد جاءت إجابته سريعة إذ قال لها: - أرى أننا تمادينا كثيراً وجعلنا أمورنا تمشي بتلقائية مملة. ولا نكترث بأشياء كثيرة يجب أن تكون لها الأولوية في قائمة اهتماماتنا. مرت بعد ذلك فترة صمت أخرى وكأنها امتداد للصمت السابق قبل أن يقطعها هذه المرة صراخ الأطفال وهم قادمون من الخارج بعد أن كلت أجسامهم من اللعب فانقلبوا إلى البيت لأخذ قسط من الراحة ومعاودة الكرَّة والكرَّة إلى أن ينهرهم الظلام عن اللعب. - واصل الحديث وهو يتجه بوجهه صوب الباب: - هاهم الأطفال نتيجة إهمالنا الشديد بدأت أحوالهم يوماً عن يوم تشذ عن الوضع الطبيعي المفترض لهم. - وماذا تراني مقصرة حتى أتلاشاه؟ قالتها بجدية وهي تحاول الاقتراب منه في الحوار وخلق نوع من التفاهم الذي تسعى به إلى تهدئة الموقف الذي يخلو من علامات الود. - أنا لا أتحدث عنك بالتحديد وإنما أتحدث عن وضعنا كأسرة متكاملة. يجب أن يحرص كلا منا على أن يقوم بدوره المنوط به بجدية. تابع بنفس الجدية السابقة حديثه قائلاً عن نفسه: - أنا أذهب إلى العمل وأغيب فترات طويلة عن البيت وأرى أن اهتماماتنا بما خارج البيت أكثر من اهتماماتنا بما داخله. أردف حديثه عن نفسه بحديث عنها قائلاً: - أنت مثلاً.. تهتمين بعلاقاتك خارج البيت أكثر من اهتمامك بأولادنا.. أما نفسك! وهنا تفحص حالتها ومظهرها الخارجي وكأنه يؤكد لها بقوله: - أرى أنك لا تنسين نفسك من الاهتمام.. حاولت أن تقاطعه غير أنه واصل الحديث: - وصديقك الحميم (الكتلي) أكثر المستفيدين من وقتك. قالها بتأنيب قاس، ولكنه أزاح عنها عبئاً ثقيلاً عند ذكر (الكتلي) وكأنها أفاقت من سكرة. - ألا ترى بأنك قد أجحفت في حقي وأنك قد ألقيت باللوم كله على كاهلي؟! أليس (القات) يأخذ منك معظم وقتك تماما كما في حالتي مع الصديق الحميم كما تسميه. إنك تخرج بعد الغداء مباشرة ولا تعود إلا في فترة متأخرة من الليل ولا تدري مشرقين نحن أم مغربين ، وأولادك قلّي بالله عليك كم مرة جلست معهم وجعلتهم يحسون بالأبوة؟! إنهم لا يعرفون منك سوى أنك والدهم . تابعت كلامها بنفس الصرامة والحزم، وكأن الصولة غدت لها: - أليست كل هذه تصرفاتك وتأتي في الأخير وتلقي بالأعباء على كاهلي؟! وكأنك خالٍ من المسؤولية.. هذا ما تحسن إجادته.. قالتها وهي ترسل ابتسامة خبيثة من ابتساماتها تبادلا على إثرها الابتسامات. قررا أخيراً بعد أن صفا الجو بينهما أن يقوم كل واحد منهما بدوره في أسرتهما، وان يقلع كل واحد عن السلوكيات التي تؤثر في بناء الأسرة، وباتا ليلتهما وهما على ذلك الاتفاق. في اليوم التالي ضبط هو مع مجموعة من الأصدقاء وبحوزته كيس مليء بالقات. وضبطت هي في بيت أحد الجيران برفقة صديقها (الكتلي) فأكملت الإجراءات وقيدت القضية ضد مجهول. الكتلي: تحريف لكلمة الكتلي المأخوذة من كلمة (كَتَل) الإنجليزية.. وهو إبريق الشاي.