ونحن نحتفي بأعياد الثورة اليمنية سبتمبر وأكتوبر ينبغي علينا أن نقف إجلالا وتقديرا لأولئك الرجال الذين سطروا بدمائهم الغالية أروع صفحات التضحية والفداء وفي الذكرى الخمسين لاندلاع ثورة الذئاب الحمر الذين بحق رووا بدمائهم شجرة الحرية والكرامة التي صادرها الاستعمار البريطاني طوال مائة وتسعة وثلاثين عاما وبرغم إمكانياتهم عتاداً وعدة استطاعوا أن يهزوا عرش التاج البريطاني من جبال ردفان الشماء , لقد كانت ثورة أكتوبر معجزة بكل المقاييس فجرها شعب أعزل من السلاح إلا من سلاح إيمانه بحقه العيش بكرامة في وطنه وحقه في تقرير مصيره وانخرط في صفوفها كل أبناء الشعب التواق إلى الحرية وفي مقدمتهم العمال والفلاحون والمثقفون الثوريون.. مخاض عسير ثورة أكتوبر عاشت مخاضاً عسيراً امتد لسنوات حتى تحقق لها الانتصار بنيل الاستقلال التام ورحيل آخر جندي بريطاني من عدن في 30 نوفمبر 1967م وطوال تلك السنوات خاض الشعب معارك قتالية مبهرة وسطر ملاحم وبطولات نادرة في بطون الأودية ورؤوس الجبال وفي الشوارع والأزقة وقدم خلالها قوافل من الشهداء الأبرار رجالاً ونساء شبابا وشيوخا . نعم لقد تحقق النصر بفضل الله وبفضل أولئكم الثوار وبفضل التفاف اليمنيين بكل فئاتهم حول الثورة. وفي هذا السياق ينبغي أن نشير إلى الدور الذي لعبته محافظة تعز الأرض والإنسان وقبل الحديث ينبغي التوضيح من أن الحديث ليس من باب المن كما قد يعتقد البعض مرضى النفوس، حيث كان الحديث وإلى وقت ليس ببعيد كان الحديث عن تعز أو عن رموزها كان يعتبر في نظر النظام وأزلامه بأنه تحريض طائفي مناطقي يجرجر صاحبه إلى المحاكم في أفضل الأحوال واليوم وبفضل ثورة أحد عشر فبراير 2011م كسر حاجز الخوف وأصبح بمقدور كل شخص أن يتحدث بكل حرية بعيداً عن الوقوع في المساءلة. وإنما من باب الوفاء والإنصاف للثوار والمناضلين الشهداء والأحياء ولتعز ولذلك فالحديث عن تعز من الصعب حصره في استعراض مناسباتي أو في مقال، ذلك أن الحديث متشعب فتعز بحجم الأرض والإنسان كما هي عدن احتضنت كل اليمنيين ولم تفرق بين احد منهم فكل من سكن أو عاش أو شرب من ماء تعز فهو تعزي . فتعز قدرها أنها صانعة التغيير ورائدة التنوير في اليمن عبر العصور . حاضنة للجميع والحديث عن ثورة 14 أكتوبر 1963م يمكن تناوله من خلال عدة محاور أولا ما قبل انطلاق الثورة، تعز بحكم طبيعتها التي حباها الله بها من مناخ معتدل وبيئة متنوعة انعكست بلا شك على طبيعة أبنائها الطيبة والمسالمة مكنتها من أن تكون حاضنة للجميع ففيها تعايشت تيارات سياسية ذات توجهات فكرية وأيديولوجيات مختلفة قومية ويسارية وإسلامية . وما ينبغي أن ننوه إليه هنا أن الكثير من قادة الحركات والجبهات الثورية كانت تعيش في تعز بعد أن ضيق عليها الاستعمار الخناق وكانوا مطلوبين للمحاكمة أمثال قحطان الشعبي وعبد اللطيف الشعبي وطه احمد مقبل وعلي السلامي وآخرين كثر كانوا يخططون ويقودون ويوجهون الثورة من تعز من خلال عمل سياسي منظم . تعز النضال الوطني وقبل الولوج في الحديث ومن باب الأمانة العلمية والأدبية يقتضي أن أشير إلى أن المعلومات الواردة استقيناها من وثائق الثورة اليمنية الصادرة عن التوجيه المعنوي وكذا الوثائق التي قدمت إلى ندوة الثورة اليمنية ( تعز النضال الوطني وتجسيد واحدية الثورة اليمنية) التي عقدت بتعز في سبتمبر 2005م، فتعز مثلت محطة الإعداد والانطلاق لثورتي سبتمبر وأكتوبر وكان لأبنائها من مختلف توجهاتهم وشرائحهم الاجتماعية دور بارز ومحوري في الثورة اليمنية بشكل عام ووصفها بعضهم بأنها قبلة الثوار والحضن الدافئ لكل مناضلي الثورة بمختلف مشاربهم السياسية.. وهنا يحضرني قول البروفيسور أبو بكر السقاف في مقال له قبل حرب 1994م المشؤومة نشر في صحيفة الثوري قال فيه أن أبناء تعز ملح التربة اليمنية . لقد احتضنت تعز ثوار أكتوبر قبل الثورة وأثناءها وبعد انطلاقتها ووفرت لهم كل وسائل الدعم والتحرك من خلال أبنائها الطيبين الذين لم يبخلوا يوما عن القيام بواجبهم الوطني في مختلف القضايا الوطنية وفي كل المنعطفات والمراحل التي مر بها اليمن. ثانيا محور انطلاق الثورة، كانت تعز كما تؤكد حقائق الجغرافيا أنها القاعدة الخلفية للتنظيم والتدريب والتسليح والانطلاق للثوار من خلال معسكر صالة الذي تلقى فيه الثوار فنون وأساليب القتال والعمل الفدائي وكذا تدريبهم على مختلف الأسلحة المتوفرة حينها . فهي لم تكن قاعدة انطلاق الثورة وحسب بل و جسدت واحدية الثورة اليمنية ففيها تشكلت العديد من التنظيمات السياسية والجبهات الثورية حيث كانت النواة لتشكيل التنظيم الجمهوري الإطار السياسي للكفاح المسلح للثورة عام 1963م وشهدت تعز تحولات نوعية في مضمار الكفاح المسلح والسياسي فمنها تم إعلان تأسيس الجبهة القومية في اغسطس1963م وجبهة التحرير عام 1965م وكذا دمج الجبهتين في العام 1966م إضافة إلى أن تعز كانت مقرا رئيسيا لقيادة الثورة الجهاز العربي المصري الذي أنشئ لدعم ثورة 14 أكتوبر. وشهدت تعز قدوم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في أبريل 1964م وكلمته الشهيرة التي لاتزال تدوي حتى اليوم ( على بريطانيا أن تحمل عصاها وترحل من الجنوب العربي ) والتي مثلت دفعة قوية للثوار وبعدها مباشرة بدأ الكر والفر للمناضلين من مختلف الجبهات. فبدأت تعز عملياً ومنذ أوائل عام 1964م تستقبل وبشكل متتالٍ جماعات ودفع المتطوعين للالتحاق بصفوف جيش التحرير والقطاع الفدائي في مدينة عدن وجميع أفراد تلك الدفع كانت الأُطُر التنظيمية للجبهة القومية في الداخل هي من تختارهم وترسلهم إلى قيادات مكتب الجبهة في تعز والذي يتولى بدوره استقبالهم وتسليمهم إلى معسكرات التدريب المعدة سلفاً بالتنسيق مع قيادات الأجهزة الأمنية في الشمال يومها بدأت تتوافد إلى تعز عناصر من قيادة فرع حركة القوميين العرب في اليمن لتنظيم وقيادة الأنشطة المختلفة للجبهة القومية وأصبحت المدينة من يومها قاعدة متقدمة ورئيسية للجبهة منها ثم الإمداد البشري والعسكري لنصرة الثورة الأكتوبرية الوطنية التحررية المنطلقة وكذلك الحال مع بقية الأطر التنظيمية والثورية للجبهات الثورية وتوالت دفع المناضلين تتواصل إلى تعز وبدأت المنظمات بعقد مؤتمراتها والإعلان عن نفسها حيث عقد المؤتمر الأول للجبهة القومية لتحرير جنوباليمن المحتل في يونيو عام 1965م بمكتب الجبهة الواقع يومها بحارة المستشفى الجمهوري في تعز وفي أواخر عام 1965م تم تشكيل التنظيم الناصري في تعز مجسدا لوحدة التراب اليمني، وفي 13يناير 1966م تم الإعلان عن قيام جبهة تحرير جنوباليمن وبعدها تم الإعلان عن قيام التنظيم الشعبي للقوى الثورية كجناح عسكري لجبهة التحرير في أغسطس 1966م. ثالثاً المحور السياسي وهكذا نلاحظ أن أبناء تعز انخرطوا في صفوف مختلف الجبهات الثورة والتنظيمات السياسية والنقابات العمالية الداعمة لثورة أكتوبر وضربوا أروع صفحات الكفاح في التضحية والفداء وساهموا بعد نجاح الثورة في بناء وقيادة الدولة من أبرزهم على سبيل المثال الشهيد عبد الفتاح إسماعيل الشهيد مهيوب علي غالب (عبود) ,محمد سعيد عبد الله (محسن), عبد العزيز عبد الولي , عبد العزيز الدالي عبد القادر سعيد ,عبد الملك إسماعيل , راشد محمد ثابت , عبد الرحمن الصريمي , عبد الله الخامري, سعيد الجناحي.. وطبعا هناك الكثير من الرموز التي شاركت في العمل السياسي والنقابي ولم استطع استحضارهم في هذه العجالة التمس العذر منهم ولهم كل التحية والتقدير والإجلال. رابعاً المحور الإعلامي أيضا كان هناك الدور الإعلامي التعبوي المتميز والذي كان دوره محوريا من خلال إذاعة تعز ومن خلال صحيفة الجمهورية اللتين سخرتا كل إمكانياتهما لدعم ثورة أكتوبر فبدأت إذاعة تعز بإذاعة البرامج التعبوية الموجهة للمواطنين وللثوار وكذا الأناشيد الوطنية الحماسية التي أججت المشاعر وشكلت دفعا معنويا للمقاتلين في مختلف جبهات القتال إضافة إلى دورها في إذاعة البيانات و نقل أخبار المقاتلين والانتصارات التي يحققونها يوما بعد يوم. وكذلك الحال لصحيفة الجمهورية التي كانت تتابع أخبار المناضلين في جبهات القتال ونشر المقالات الثورية التعبوية التي حشدت الجماهير إلى جانب التوعية بالثورة وأهدافها ودعوة العمال في مختلف المرافق في عدن إلى التظاهر ضد المحتلين . وكلاهما معا استطاعا أن تعملان على إعادة تشكيل وعي المواطنين تجاه قضيتهم ومن ثم التفافهم حولها، أيضا لا ننسى أن تعز كانت مسرحا للمسيرات والمظاهرات المنددة بالمستعمر وسياسته القمعية . وأخيرا أود أن اذكر بالتلازم الأخوي الأزلي بين أبناء عدنوتعز والذي جسد بحق الأخوة في انصع صورها، حيث انصهروا جميعا في نسيج واحد وحوتهم عدن ثغر اليمن الباسم بكل حنية فكانت عدن الملاذ الآمن لأبناء تعز من بطش الإمامة ومن بعدها من بطش حكام ما بعد 1968م. محطة انطلاق كما لا ننسى أن نشير إلى أن تعز كانت أيضا محطة انطلاق السياسيين لمفاوضات الاستقلال في جنيف . فما احوجنا اليوم إلى استلهام ذاك الزخم الثوري الذي جسده أبناء الوطن بمختلف توجهاتهم ومشاربهم الفكرية تحت شعار برع يا استعمار .إننا بأمس الحاجة لاستحضار أمجادنا الغابرة خاصة وبلادنا على مفترق طرق وفي ترقب لمخرجات مؤتمر الحوار الوطني الذي ينبغي أن نلتف حوله جميعا لنصنع اليمن الجديد يمن العدالة والحرية والمواطنة المتساوية.