في زمن الجنون يصير الحب جريمة والقتل بطولة !! يصير المحب عاراً والقاتل شهماً !! اشتعل رأسي ناراً حين سمعت أن أباً أقدم على حرق ابنته لأنها حدثت خطيبها بالتلفون, يا إلهي ما الذي يجري , لقد انتزعت كل مشاعر الرحمة والحنان والعطف من هذا الأب , ياألهي أين وصلت بنا الثقافة المغشوشة , لقد جعلت الأب يحرق فلذة كبده , لماذا !! ومنذ متى كان الحب جريمة يعاقب عليها الإنسان , وأي دين حرم الحب وأي رسول رفض الحب , آه ثم آه , الحب يا قومنا غريزة في أعماقنا , والدين يدعمه ويغذيه ويرسم طريقه السوي ... لأجل دين الحب أكتب قصة الحب , قصة حب جميلة ذكرها القرآن حصلت لنبي الله موسى تناستها كتب تراثنا أو لم تلق لها اهتماماً كافياً أو تأملاً لسطور تلك الآيات التي ذكرت تلك القصة , لبيان حكايا بين سطورها , لقد توقف المفسرون طويلاً أمام آيات سموها آيات الأحكام , ومروا سريعاًً أمام كم هائل من القصص التي حكاها القرآن , والقرآن في أغلبه قصص. أهدي تفاصيل هذه القصة لروح تلك الفتاة التي مارست غريزتها وفطرتها الطبيعية , أهديها لكل روح تعيش الحب في زمن المعارك والبنادق والرصاص .. تأملوا معي آيات سورة القصص وهي السورة التي حكت أكثر تفاصيل قصة موسى عليه السلام .. توجه موسى إلى مدين هارباً من المدينة لقتله المصري خطأ , واستمر في سيره حتى وصل إلى بئر يزدحم عليها الرعاة ليشربوا منها ويسقوا دوابهم , وهناك وجد فتاتين لا تستطيعان الاقتراب من البئر لسقي أغنامهما , فتحركت عنده مشاعر الحب والرحمة تجاههما , واقترب منهما رغم تعبه من السفر وسألهما عن حالهما , لماذا لا تسقيان ؟؟ وعرض عليهما خدماته إن أردن , فأخبرتاه أنهما ينتظران حتى ينتهي الرجال من السقيا , ثم يقومان بالسقي فهن ضعيفات ولا يقوين على الزحام , فتحركت مشاعر الحب مرة أخرى لدى موسى وقام بمساعدتهن , إذ زاحم الرجال وسقى لهما وربما أظهر لهن مدى قوته , فأعجبن به ومن قوته في أخذ الماء ومزاحمته الأشداء من الرجال ومن جمال أخلاقه حين أكمل سقياهن ثم عاد إلى ظل شجرة قريبة يتمدد تحتها ليستريح من تعب السفر فقد قطع مسافة من الصباح إلى بعد العصر وهو وقت السقي لدى الرعاة ....” وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ * وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص :22 - 24] . ولما عادت الفتاتان إلى بيتهما كن في فرح يغمرهن , وأخبرتا أباهن الشيخ الكبير بمروءة وشهامة وطيبة قلب ذلك الشاب الغريب , فلم يخافا من إخباره ولم يعتبرا ذلك مشيناً , وحتى ذلك الشيخ قابل ذلك الحماس منهن بفرح , فحين لاحظ حماس أحد البنتين وبريق عينها وهي تخبره عن ذلك الشاب , عرف أنها قد أعجبت به , فلم ينهرها أو يضربها أو يحبسها , بل ابتسم وأرسلها هي لتدعو ذلك الشاب ليكافأه , ففرحت حين اختارها وذهبت وحدها إلى موسى بلا مرافق , ثم كلمته على استحياء أن أبي يريد أن يجزيك أجر ما سقيت لنا , فلبى موسى الطلب وذهب برفقتها إلى أبيها , وفي الطريق دار حوار جميل على استحياء , كلمات قليلة أكثرها كان إرشادا للطريق , وربما سألته عن حاله ومن أين أتى ولماذا أتى وإلى أين يريد الذهاب ؟؟.. ولما وصل موسى إلى أبيها الشيخ الكبير حكى قصته وكيف أنه هرب بعد أن قتل خطأ رجلا مصرياً , كان يريد ضربه فقط ولم يقصد إطلاقاً قتله , وكانت الفتاتان تتابعان باندهاش قصته , فطمأنه الشيخ الكبير وأحسن إكرامه في ذلك اليوم ....”فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص : 25] كانت الفتاة في ذلك اليوم تبحث عن عذر لاستبقاء ذلك الشاب عندهم فلربما تطور ذلك الحب بينهما ولربما عرف موسى أنها تحبه فيلتقيان يوماً في عرس جميل .. جاءت الفكرة وخطرت الخاطرة وسريعاً هبت الفتاة إلى أبيها لتقول “ يا أبت استأجره “ يا أبت اجعله عندنا كي يرعى الأغنام ويسقيهن أو يقوم بمساعدتك ومساعدتنا بأي عمل ... “ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ [القصص : 26] عرف الأب دافع ابنته فابتسم في داخله وعرض على موسى أن يعمل لديه لمدة ثمان سنوات , وإن رغب في إتمامها عشراً فهو فضل منه , ومقابل ذلك سيزوجه بإحدى ابنتيه ..لم يصرح الأب ممن سيزوجه حتى لا يحرج ابنته بأنه عرف مشاعرها وإنما اكتفى بقوله “ احدى ابنتي هاتين “ , فقبل موسى بكل طيب خاطر ولربما فكر بأن مشاعر الحب التي انطلقت منه تجاههما في أول لحظة بدأت تؤتي أكلها .. بدأ موسى يتخيل عشر سنوات قادمة سيعيش فيها مع عائلة جديدة يغمرونه بالحب والدفء ... “ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ [القصص :27- 28]. ظهر من حديث ذلك الشيخ الكبير أنه رجل مؤمن بالله وأنه متدين ويحب العمل الصالح , ولذا ختم حديثه بقوله “ ستجدني إن شاء الله من الصالحين “ كما أنه أنهى اتفاقه مع موسى بقوله “ والله على ما نقول وكيل “ وموسى حينها لم يكن طائشاً في أفعاله , لأن الله وصفه في أول القصة بقوله “ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [القصص : 14] واستمر موسى مع تلك العائلة وفي تلك الأجواء الجميلة .. وهنا سأدع لمخيلتكم أن تملأ تلك العشر السنوات بما يمكن أن يكون من حكايا وقصص بينهم .. عشر سنوات من الحب قبل الزواج ، لمحات وابتسامات وحكايات وقصص وليالٍ في الطبيعة مع ضوء القمر وطعام وشراب وملبس ومنام ....،،، إنه عمر من المحبة وعقد من العشق الجميل والانتظار المحموم بترقب اللقاء .. كانوا يرعون سوياً ويأكلون سوياً , يحكي لهم موسى عن قصصه في الطفولة وكيف كان مدللاً في بيت فرعون , وكيف كان يعيش عيشة الملوك في ذلك القصر , ويحكي لهم قصة وصوله لبيت فرعون عبر تابوت رمي في اليم .. كان موسى قد عرف قصته تلك ولذا وقف مع الإسرائيلي ضد المصري .. تعمق الحب بينهما طوال عشر سنوات في ظل رعاية الأب (الشيخ الكبير) والذي كان يفرح كثيرا بابنته حين تقدم الطعام وتنظر باستحياء , وتسترق كثيراً من اللمحات لموسى أثناء ذهابه وإيابه وأكله وشربه وحديثه .. ثم انتهت تلك العشر وانتهى الأجل المتفق عليه , ودخل موسى بزوجته في عرس جميل لم يحتج له كل الضوضاء , بل يكفي أن الحب والمودة تسود ذلك البيت , بعدها يطلب موسى من الشيخ الكبير أن يسمح له بالرحيل مصطحباً زوجته معه , حبها له جعله توافق على الرحيل من البلاد التي عاشت وولدت فيها لتبدأ حياة جديدة , ستكون في غربة عن أهلها وهذا محزن لها , ولكنها ستكون بصحبة من أحبته وهذا يخفف عنها ..” فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ [القصص : 29] .... تلك كانت قصة موسى فأين من يريد أن ينزع عن الأديان الحب ؟