عز الأصبحي لا تزال المدينة نائمة هذا الشتاء الذي جاء باكراً يجعلها تتدثر بصمتها وعطلة نهاية الاسبوع تسهم في ان تجعل شوارعها خالية عليّ ان اهرع وحيداً وبسرعة ..المشي السريع يساعدني على التغلب على لفحة البرد التي تجتاح مفاصلي . خمس محطات واصل - العنوان بتفاصيله على رسالة بهاتفي - لم اجرؤ ان اكتبه واحتفظت بالرسالة كما هي . - قالت: لا وقت غيرعطلة الاسبوع تعال خذ اوراقك فقد كان ينتظركم طويلا !! صوتها معبأ بالحزن الى الحد الذي لا ترد عليه! هذا الشارع الضيق هو آخر منعطف بعده المبنى بدت البناية اقدم مما تخيلت او مما تركتها من سنوات حسبت السنوات التي مضت فأدركت ان العمر مضى بأسرع مما تخيلت ! - ياالله كم مر من العمر مبدداً على ارصفة الملاحقة والخوف .. ياالله هذا يكفي ! اقف الآن على مدخل العمارة القديمة التي تذكرك بنمط باريس القديمة ! يبدو لي ان المدخل صار اضيق مما مضى قلت لنفسي بصوت مرتفع هذا الباب صار اصغر مما كان فرد صوتها - بل نحن كبرنا !! لم انتبه اليها بهذه العتمة على المدخل . كانت تنتظر اشعر بالبرد اكثر الآن رهبة الخوف لحظة الانتظار التي هربت منها نفس الغرفة الصغيرة التي عرفتها ! نفس الكرسي الذي صار كالحاً هو نفسه بضحكته الحزينة يطل علينا ولكن من برواز اسود على الجدار ! ارى الصورة والدمعة سحابة قهر في صدري وليس بعيني فقط قالت وهي لا تنزل نظرها من على صورته على الجدار - كان ينتظركم طويلاً .. طويلاً اكملت هي تحكي وانا مخنوق بقهري - بقي وحيداً يصارع المرض الخبيث موقناً انه سينتصر عليه , لكن الغربة والقهر وكل هذا الصمت كانوا اقوى منه ! بدت هي اكثر هزالاً منذ قبل واكثر شحوباً - تفاصيل الجمال الشامي الذي كنا نمتدحه بها يذبل الآن ! كنا نضحك لفرحته وهو يترقب وصولها على جدارالسكن المشترك ونقول عن مشيتها القوية انها تدب على الارض ونطلق ضحكتنا ويرد هو بفرح طفل، انها زنبقة تمشي على قدمينا كانا الاثنان حالة الفرح في مجموعتنا .. اكملت وهي تمد حزمة اوراق بدت اقدم مما تخيلت . - كان ينتظر ان يعطيك اوراقه بنفسه ! انت لم تأتِ .. والموت لم يمهله لينتظر اكثر ! نظرت الى الصورة كانت تنطق اكثر الآن - لم يسمح لي بالبقاء او الزيارة وسحبت وثائقي سنوات احتجت وقتاً لاسترد ذلك قلت مبرراً بصوت مخنوق وردت هي بصوت اكثر حزنا: - هو يعرف ذلك والآخرون ابتلعتهم الغربة والشتات وما عادوا هم كما كانوا! اقلب نظري بالغرفة التي كانت محراب عمل وفكر ..في الركن صورتنا شباب صغار كنا منكوشي الشعر ونضحك بجنون ونرفع شارات النصر ! بجانبها صورة جورج حبش والكوفية الفلسطينية وفي الزاوية رسم لوجه دلال مغربي طفل يبكي في قلب قبة الصخرة ,, صورة غسان كنفاني وهويشرب سجائره في الركن عود قديم لا أوتار له ورسم للفنان السوداني محمد وردي انظر في ملف الاوراق التي بيدي واضمه بقوة ارى صور من مقالات بالطليعة الكويتية ورسمه لم تكتمل بالرصاص لناجي العلي وارى مقالاً قديماً لي عن دور الفن في القضية اسأل نفسي اين القضية الآن؟ لم اجرؤ ان ارفع صوتي بالسؤال،لكنها كأنها سمعت ورايتها تقول: - قبل ان يموت قال: - ستعود الثورة غريبة كما بدأت .. ولكنها ستعود وسننتصر، كان مؤمنا حتى اللحظة الاخيرة رغم انتصار المرض عليه ان القادم اجمل وقال عليّ ان اذكرك بهذه الجملة عندما كتبت له مرة يائساً محبطاً ! اندفعت تحكي تفاصيل اللحظات الاخيرة وكيف ودع الدنيا وهو يسخر من وهم انتصارت الاقزام والاعداء قال لها - هذا وهم سينتهي ... والحق لا يموت فقط نتمسك به ! واكملت - كان ينتظركم .. ينتظر العودة اليكم او تأتون ثانية لتساعدوه في قهر هذه الغربة القاهرة لكن تأخرتم كالعادة ! اكملت جملتها ولم تتمالك دمعتها التي سالت ورأيت نفسي اغادر بصمت .. نفس المحل المعتم قليلاً بأوراق فيها حلم ايام مضت وبعض شظايا قلب انكسر احتاج الآن الى مدينة خالية من البشر لأ قرأ ما كتبت يا صاحبي وحتى لا يرقب احد حزننا.