مرحلة كئيبة من الزمن عاشتها اليمن منذ بدء ما أسمي بالأزمة السياسية وما تلتها من مرحلة انتقالية لا زالت تبعاتها تجر أذيالها حتى الآن، بعد أن كابدت اضطرابات واختلالات سياسية جمة كضرورة لتجاوز تلك المرحلة وانعكاساتها على الخطاب السياسي المعلن والخفي، ومما لا يمكن إنكاره: الدور الكبير لوسائل الإعلام وخصوصاً المجتمعية خلال تلك المرحلة وتأثيراتها على تكوين القناعات والمواقف، وتكريس الممارسات السلوكية في ظل حالة الاستقطاب السياسي الحاد.. السؤال الذي يطرح نفسه في هذا الصدد: إلى أي مدى استطاع الإعلام اليمني تقديم الدور المنوط به في سبيل تعزيز الديمقراطية والحريات والحفاظ على السلم الاجتماعي خلال الفترة الماضية؟ وما الذي يمكن تقديمه مستقبلاً في ظل الترسبات العالقة التي تكشف هشاشة المؤسسات وتفشي الفساد وانعدام الثقة بين الأطراف السياسية والاجتماعية وسط توتر متصاعد للأوضاع الأمنية؟. طبيعة المرحلة الانتقالية سياسيون يؤكدون أن البلاد شهدت خلال المرحلة الانتقالية أوضاعاً استثنائية، حيث تدهور الوضع الأمني والاقتصادي بشكل كبير، وهو ما عكس إلى حد كبير عيوب الأنظمة السياسية وثغراتها، طبيعة المراحل الانتقالية أيضاً فرضت المزيد من الضغوط والتحديات، أدت إلى ظهور صعوبات عرقلت وبشدة خطى السير الانتقالي الحسن نحو الاستقرار السريع والآمن كما كان مأمولاً، وخلال ذلك كان للإعلام دوره الهام بعد تحوله إلى مسرح تؤدي عليه عمليات المرحلة أدوارها وتلقي من خلاله مؤثراتها ورسائلها، ما جعل إعلام المرحلة الانتقالية وخصوصاً الحزبي منه يتسم بالخطابية والصدامية المباشرة من جهة؛ والفوضى والعشوائية من جهة أخرى، فيما بدا الإعلام الرسمي ساحة صراع منقسمة بين الموالين للأطراف الحاكمة القديمة أو الحديثة. واقع الإعلام خلال المرحلة ذكر وضاح الجليل وهو كاتب صحفي، في ورقة عمل لمؤسسة تنمية المجتمعات المحلية حول إعلام المراحل الانتقالية وما بعد الصراعات.. “أن المرحلة الانتقالية في اليمن اتسمت بالانفتاح على الحريات العامة وتكوين الأحزاب والمنظمات ووسائل الإعلام المختلفة، إلا أن ذلك لا يعني مطلقاً أن البلاد عاشت فترة ازدهار في جانب الحريات العامة”. وأكد الجليل أن البيئة السياسية التي سمحت بظهور وسائل الإعلام؛ تركت للأحداث والتطورات صلاحية إنتاج مواد لصناعة هذا الإعلام، وهو ما جعلها غير قادرة على حيازة ثقة المتلقي وإقناعه بتكوين مواقف إيجابية تجاه ما يتلقاه. فالمشهد الإعلامي الانتقالي عانى من المشكلات ذاتها التي خيمت على الساحة السياسية: عنف، اتهامات، شتائم وقذف وانحياز إلى معسكرات أيديولوجية وسياسية عدائية.. وقال الجليل: “لربما تحول الإعلام إلى طرف سياسي يتهمه كل طرف من الفرقاء بتأجيج الغضب ضد الطرف الآخر”. لقد دخل الإعلام اليمني بفعل الأزمة السياسية في مرحلة من التيه والضبابية، كما أنه - بحسب الصحفية وداد البدوي- لم يكتسب بعد قيماً جديدة في الحرية تسمح له بإنتاج مواد إعلامية تتماشى مع المرحلة وتؤدي رسالة ذات قيمة ومعنى، ما يعني صعوبة التحول الإعلامي في اليمن على الأقل في الوقت الحالي.. البدوي وفي ورقة عمل حول تحديات الإعلام في مرحلة ما بعد الحوار، تبرر ذلك بتعرض الإعلام للكثير من التغييرات أهمها ما حدث من فرز جديد في وسائله تبعاً للفرز السياسي والاجتماعي القائم، وهذه التغيرات جعلت المنتج الإعلامي رديئاً ومؤثراً سلباً على الهوية الوطنية ومساعداً في المزيد من إفساد الحياة العامة ومبرراً للصراعات وتفخيخ المجتمعات بالمزيد من الاحتقانات. إن من تجليات التغيير في المشهد الإعلامي الذي اصطحب الحراك السياسي والاجتماعي - على حد قول الكاتب الصحفي وضاح الجليل - انفلات وسائل إعلامية عن قواعد المهنة وتقاليدها، وضياع هويات وسائل أخرى، وتحول بعضها إلى أبواق دعائية جل ما يعنيها خدمة مصالح مالكيها وأهدافهم، وهذا ما يدلل انصراف الجمهور عن إعلامه المحلي المقيّد والموجّه، والالتفات والتطلع نحو إعلام خارجي الأكثر تحرراً ومهنية، ويورد الجليل سببا آخر لعدم قدرة الإعلام اليمني في المرحلة الانتقالية على تقديم منتج لائق يحترم المتلقي وهو أن المشهد الإعلامي يعاني من نقص حاد في الموارد والتدريب. - قال عمر الحياني عضو مجلس إدارة الرابطة العربية للإعلاميين العلميين: “لقد ظهر الإعلام اليمني خلال الفترة الانتقالية مشحوناً بلغة انتقامية في بعض وسائل الإعلام برغم تحررها من بعض القيود التي كبلتها خلال السنوات الأخيرة.. فوضعها لا زال سيئاً جداً في ظل غياب السياسات التحريرية والقواعد الأخلاقية لدى العديد من المؤسسات ذات المهنية الضعيفة”. البيئة الإعلامية الانتقالية لعل المشهد الإعلامي خلال الأزمة السياسية لم يكن وردياً في اليمن ولا في معظم الدول العربية التي شهدت أزمات سياسية؛ حيث واجه الصحافيون التقليديون تحدياً حاسماً يتمثل في إعادة بناء هويتهم لاستعادة ثقة جمهورهم، ومع ذلك لا يمكن أن يتحقق هذا التحول المهم دون مراجعة ممارساتهم وتطبيق المعايير المهنية. كما أكد رشاد الشرعبي - رئيس مركز التدريب الإعلامي والتنمية - أن الإعلام اليمني يعمل في بيئة خطرة تضاعفت خطورتها على حياة العاملين فيها مع تعدد الجهات التي تعتدي عليهم أو تهددهم في حال لم تعجبها منشوراتهم”. - ويضيف الشرعبي “مع الإقرار بوجود خلل في الأداء المهني وعدم الالتزام بمعاييره وأخلاقياته.. تحول الإعلام إلى خطر على المجتمع والوطن جراء تبعيته وانشغاله بالأداء السياسي وتوجيهه وفق رغبات وأهداف ومصالح مالكيه ومموليه”. وبالرغم من التطورات التكنولوجية الهائلة التي أسهمت في إثراء البيئة الإعلامية عموماً وجعلها فاعلة في صناعة موازين القوى والتأثير فيها؛ إلا أن وداد البدوي ترى أن البيئة الإعلامية اليمنية لا تزال تعمل بالطريقة التقليدية الارتجالية وغير الممنهجة.. حيث لم تستوعب بعد التحولات في النظم الإعلامية ولم تستجب لتحديات البيئة الإعلامية العالمية. إننا إذن أمام بيئة إعلامية غير صحيحة تختلف بحسب فرص الحصول على التمويل ونوعيته .. في ظل غياب دور النقابات المعنية التي لم تعمل على توفير الأطر القانونية السليمة والتي يعد الحديث عنها معقداً جداً.. وقالت البدوي “يكاد يكون الحديث عن البيئة الإعلامية أمراً مخجلاً بسبب المشاكل والتعقيدات والفوضى التي تعانيها وتنعكس إجمالاً على رسائلها الإعلامية”. في إشارة إلى أن البيئة الإعلامية غير قادرة على إنتاج مضمون يحترم القارئ ويتعامل بعقلانية مع الأحداث.. والسبب تحكم الملكية الفردية فيها والتي لا تأبه لأخلاقيات العمل .. فمن يديرونها غالباً ما يكونون من خارج البيئة الإعلامية وهم على استعداد للتنازل عن المهنية مقابل امتيازات معينة. رسائل سلبية إن الإعلام الرسمي في اليمن ما زال محتكراً لنخبة حاكمة جديدة - على حد قول الحياني - ولم يشهد أي تغييرات جذرية في المستويات العميقة ولم يتحول بعد ليصبح منبراً للشعب والرأي العام الشعبي. ويؤكد ذلك وضاح الجليل بقوله “لم تبدأ وسائل الإعلام عهداً جديداً بمجرد حدوث التغيير أكثر من أنها تحررت من قبضة طرف سياسي واحد لتتوزع السيطرة عليها بيد أطراف سلطة توافقية واحدة في ظاهرها، فهي (السلطة التوافقية) وإن بدت بوجه واحد إلا أنها تقدم إعلاماً يخدم التوافق السياسي نفسه بما هو إعادة إنتاج للقديم بملامح جديدة فحسب”. الحياني يضيف في هذا الشأن “صحيح أن المحرمات السابقة التي كانت تقيد الإعلام قد تلاشت إلا أن الإعلاميين لا يزالون يشعرون بعدم الحرية ويواجهون ترهيباً في نفس الإطار التنظيمي القمعي القائم.. فهم غير متأكدين من كيفية ترجمة الحرية الجديدة”. وفي تشخيص للواقع الحالي - ذكر رشاد الشرعبي - أن ما هو موجود الآن ليس أكثر من مجرد مؤسسات تابعة للحكومة أو مؤسسات تابعة لأطراف وأحزاب سياسية أو شخصيات معينة. ليصبح الإعلام اليمني مجرد تابع سياسي أو مادي حتى غلبت السلبية على دوره. فأثار القضايا بشكل أدى إلى تعميق الخلافات بين المتحاورين المجتمعين في مؤتمر الحوار مثلاً، وأيضاً توجيه رسائل سلبية للجمهور العام وإصابة الناس بالإحباط واليأس. مستقبل الإعلام وتحدياته هناك مقولة شهيرة ل محمد بايو الذي كان يشغل منصب مدير المؤسسة العامة للصحافة في ليبيا «إن الصحافيين الذين يعملون بأسلوب مهني يحتاجون إلى مؤسسات مهنية لحمايتهم». في إشارة إلى أن النهوض بإعلام عربي وطني عملية طويلة وشائكة يجب أن تعطى الأولوية وأن تنفذ بعيداً عن الانقسامات السياسية والأيديولوجية. وفي ظل عدم القدرة على تطور العمل الإعلامي يكشف المشهد الانتقالي عن نموذج إعلامي خلاصته «يمكنك قول ما تشاء دون تحمل أي مسؤولية».. فقد فقدت وسائل الإعلام الوطنية الفرصة لتكون بمثابة المراقب على السلطة السياسية بينما يعيق تكوينها الضعيف ومشاكلها الداخلية أيضاً تطور هذا الدور. قال رشاد الشرعبي: أعتقد أن دور الإعلام السلبي سيستمر لو استمرت تبعيته للأطراف السياسية واستمر صراعها واستخدامها له كواحدة من أدوات الصراع بعيداً عن معايير المهنية والأخلاقيات وغياب المسئولية المفترضة تجاه الوطن والمجتمع” لقد أصبح على الإعلاميين في اليمن مواجهة تهديدات الكيانات المسلحة والتي تمثل سلطتها تحدياً كبيراً للدولة، حيث يمثل النشر عن انتهاكاتها خطراً يعد أهم تحديات إعادة بناء قطاع الإعلام وترميم ما تهدم منه. هيكلة وإعادة إعمار “يبدو أننا بحاجة إلى إعلام يعمل على الحفاظ على الهوية اليمنية وتماسك المجتمع خلال الفترة القادمة التي سوف تكون صعبة على المواطن بعيداً عن الشحن السلبي” هكذا ينظر الحياني إلى مستقبل الأمر .. ويتابع “لقد اتسم الإعلام الرسمي بنوع من الحيادية خلال الفترة الماضية لكن يعاب عليه عدم تسليط الضوء على بعض المشكلات التي تواجه البلد والتي تتطلب لغة إعلامية قوية تعمل على خلق مناخ إيجابي يواكب تحديات المرحلة” مشدداً على أن الإعلام الوطني وحتى يستعيد وظيفته الرئيسة يتوجب عليه أولاً استعادة شرعيته في أعين جماهيره. وفيما يعاني الإعلام الرسمي من مشكلات داخلية قديمة تجعل عملية إعادة إعمار الإعلام الوطني مهمة شبه مستحيلة.. فإن تحديات كبيرة تواجه إعادة هيكلة هذا القطاع تكمن في مراجعة نظام ملكيته مروراً بتدريب موظفيه وصولاً إلى السياسات التحريرية التي تحدد المعايير المهنية بعيداً عن تدخل الحكومة والعادات الراسخة من رقابة ذاتية. النهوض بالإعلام الوطني عملية طويلة وشائكة يتوجب فيها على العاملين في القطاع إعطائها الألوية بعيداً عن الانقسامات السياسية والأيديولوجية والحيلولة دون عجزهم عن حشد الضغط اللازم للحصول على حقوقهم المهنية. ما بعد الحوار إن ثمة نقطة للتأمل من خلال ما نراهن عليه مستقبلاً في مرحلة ما بعد الحوار حيث يؤمل تنفيذ نتائج مخرجات الحوار الوطني والذي يتوقع أن تكون منصفة للجميع ومؤسسة لدول حديثة تتبنى المنهج المدني لخلق تعايش اجتماعي عادل.. وعليه فإن المهم في هذه المرحلة - بحسب وضاح الجليل - التنبه للبيئة الإعلامية كأهم ضمان لخلق جو عام مطمئن وغير محموم بالمشاحنات والنعرات بما يفضي إلى حالة اجتماعية وسياسية متقبلة لمخرجات الحوار ومساهمة في تنفيذه على أرض الواقع. قالت وداد البدوي «يجب أن يلعب الإعلام دوراً فاعلاً لبناء ثقافة سياسية جديدة تسهم في ترسيخ قيم الحوار والتعايش والقبول بالآخر ومناهضة الآثار السلبية لرواسب الماضي». وتضيف البدوي«لعل من أهم المخاطر المهنية المهددة لمرحلة ما بعد الحوار أن يظل الإعلام بكل مؤسساته يعيش في تلك العقلية العقيمة فلا يلد إلا خلافات ورعباً.. إلى جانب الاستمرار في منح التراخيص المبنية على الوساطة والمال .. فيما يعتمد الصحفي على ما يتلقاه من مقابل ضئيل في ظل عدم وجد قوانين منظمة لأجوره وملزمة بحقوقه». الانتماء الحزبي الضيق للعاملين في الإعلام يعد أيضاً من أهم المخاطر التي تواجه الإعلام في المرحلة القادمة.. فضلاً عن الوضع الاقتصادي الذي يرزحون تحته والذي يكاد يكون العامل الأبرز لجرهم إلى مربع الخلافات، حيث إن معالجة ذلك سيقود بلا شك إلى التوجه الجاد لمعالجة الاختلالات الأخرى .. إننا بحاجة ماسة إلى بيئة إعلامية قادرة على أداء دور إيجابي. وهي بذلك تحتاج إلى صيغ قانونية تسمح لها بالعمل الحر غير المقيد أو المشروط. وهذا يصعب على وسائل إعلام فقيرة مادياً ومهنياً وتنتهج وسائل قديمة ومستهلكة.. كما أنه لا بد خلال هذه المرحلة من إجراءات على عدة مستويات تتمثل في إعادة النظر في دور الإعلام والتشديد على إلغاء وزارة الإعلام وإنشاء مجلس أعلى للصحافة. وإسقاط كافة المهام القمعية والرقابية للوزارة . الإعلاميون والمهتمون بالأمر يؤكدون أن عملية التهيئة للتحول الديمقراطي تتطلب إعادة هيكلة وسائل الإعلام وتحويلها إلى جهات خدمية عامة، ومنحها الاستقلالية والحماية ومنع الوصاية الحزبية أو الفئوية.