في زخم الثورات العلمية الهائلة التي شملت أغلب جوانب العلم في القرون الأخيرة ابتداءً من القرن الثامن عشر وما تلاه حتى اليوم، كل هذه المتواليات أفرزت كماً معرفياً هائلاً لإنسان اليوم سواءً كان مشاركاً في صناعة هذه العلوم أو في تلقي نتائج هذه العلوم كتكنولوجيا متداولة ومطبقة في كل نواحي الحياة. وكان دخول هذه التكنولوجيا إلى الدول المتخلفة عن مسيرة الثورات العلمية محدثاً فجوة معرفية ضخمة تمثلت في تراكم المعرفة العلمية غير المستوعبة من قبل مستخدمي هذه التكنولوجيا فأصبح هذا الاستخدام أشبه بتقليد أعمى دون أي وعي مرافق له.. علاوة على ذلك فإن هذه الفجوة تتزايد يوماً بعد يوم مع تسارع الاكتشافات العلمية مما حمّل دول التخلف العلمي أعباء متراكمة لسد هذه الفجوة المتوسعة. لكن ما هو الحل لذلك؟ فطنت دول التقدم العلمي لهذه المشكلة في بداية عهد الثورات العلمية فظهرت بوادر حلول في تلك المجتمعات تمثلت في نشر مفاهيم العلوم جماهيرياً حتى لا تكون الجماهير المستهدفة لتكنولوجيا تلك العلوم بعيدة عن جو العلم الذي صنع تلك التكنولوجيا المتطورة ،بل تكون على أدراك ووعي بأساسيات العلوم. وتصدى للقيام بهذه الجهود عدد من رجال العلم أنفسهم فكانت المحاضرات العامة لفارادي و أينشتاين وبور موجهه للجماهير أولاً لعلمهم أن الجماهير أولاً وأخيراً هم الهدف .. لكن هل هذا يكفي؟ وماذا تصنع مجتمعات التخلف العلمي التي تستورد نتائج العلم على شكل تكنولوجيا مستخدمة ولا تنتج العلم نفسه؟ وهل يكفي دور العلماء وحدهم في نشر مفاهيم العلوم؟ كل هذه الأسئلة وغيرها أفرز مصطلحات جديدة مثل (الثقافة العلمية)و (الرجل الثالث)وغيرها من المصطلحات التي سوف نستعرضها في هذا المقال على عجالة.. تعريف الثقافة العلمية تفاوتت الترجمة العربية للمصطلحين (Culture scientific أو Scientific Literacy) بين مصطلح الثقافة العلمية والتنوير العلمي أو محو الأمية العلمية ، لكن دعونا نتفق على مصطلح واحد وهو المقصود في هذا المقام وهو Scientific Literacy لأني أرى أنه المقصود أولاً وأخيراً فالهدف هو محو الأمية العلمية التي تعاني منها الأمم المتخلف عن الثورات العلمية. يقول د. علي بن الأشهر: «إن الثقافة العلمية والتقنية هي فرع من فروع الثقافة في كل المجتمعات الإنسانية، وما يقتضيه ذلك من ضرورات نشر وترسيخ النظرة العلمية، والتفكير العلمي والتقاني، وتزويد الإنسان العربي بحقائق العلم وإنجازات التقانة، وأن تكون لديه اتجاهات عقلانية نحو العلم بوصفه قيمة، وتدريبه على التفكير العلمي في تصرفاته ومعالجة المواقف المختلفة.” مفهوم الرجل الثالث منْ يقوم بهذه العملية؟ لا ريب إن رجال العلم هم أول من تصدى لهذه المهمة في الغرب “فقد استشعر رواد الحركة العلمية الأوائل في أوربا خطر هذه المشكلة فاهتم عدد كبير منهم بالتفاعل مع القيادات الفكرية والسياسية ، ومع الناس بشكل عام في محاولات مستمرة لتبسيط المفاهيم والأفكار وتوضيح المعطيات التقنية وإبراز المعاني والدلالات المرتبطة بالجهود والنتائج العلمية وكان من أبرز هؤلاء في بداية القرن التاسع عشر الميلادي الفيزيائي البريطاني مايكل فاراداي الذي أدى اكتشافه لظاهرة الحث الكهرومغناطيسي إلى اختراع المولد الكهربائي ففتح بذلك باب استخدامات وتحويلات الطاقة على مصراعيه ، لقد أصبح فاراداي المتحدث باسم الحركة العلمية في عصره والمروج لها إذ كانت محاضراته العامة ملتقى شرائح متنوعة من المجتمع البريطاني، و في عصرنا الحاضر إهتم علماء مرموقون بعملية التواصل مع الجمهور عبر تأليف الكتب والنشرات المبسطة وإلقاء المحاضرات والمشاركة في الندوات العامة ، وكان من أبرزهم ألبرت أينشتاين ، وإروين شرودنجر ، وريتشارد فينمان ، وستيفن هوكنج الذي صدر له قبل عدة سنوات كتاب ( تاريخ موجز للزمن ) ترجم إلى عدة لغات منها اللغة العربية واحتل لفترة طويلة موقعاً متقدماً على قائمة أفضل الكتب مبيعاً في الغرب.. لكن مع ذلك فقد انقسم الناس بين مؤيدين للثقافة الشعبية ومعارضين لها، فالمؤيدون يرون ضرورة تعميم الثقافة العلمية على كافة فئات الشعب وبأسهل الطرق ويركزون على القيام بذلك من قبل متخصصين، لأن الكثير من الصحفيين غير المتخصصين لا يملكون قدرة على التعبير بشكل سليم عن مواضيع علمية متخصصة، وهذا ما يجعل إمكانية تكرار الأخطاء واضحاً، وخاصة عندما يستخدمون مصطلحات علمية غير مناسبة أو اصطلاحات مترجمة عن لغة وسيطة لا يتقنوها، لذلك هم يرون أن يتولى نشر الثقافة العلمية العالم المتخصص - الذي لديه ملكة الكتابة والقدرة على الإيضاح - وهو الأكثر دراية من غيره بدقائق العلم والقادر على تبسيطه دون تحريف أو قصور. وثمة كتب معروفة وواسعة الانتشار على مر عدة عقود بل وقرون, لعلماء قاموا بمهمة التثقيف العلمي للجمهور, من أمثال بويل وباسكال, وحتى أينشتاين وكريك وهوكنج، أما المعارضون فيرون أن الكتابة في هذا المجال هو عمل مضيع لوقت الباحثين والعلماء الذين يجب أن يقتصر جهدهم على البحث العلمي الحقيقي الهادف والساعي للمزيد من الاكتشافات البارزة التي تخدم البشرية من خلال وضع حلول للمشكلات المعلقة حتى الآن. ويكررون القول بأن تبسيط العلوم عمل يؤدي إلى إفقار العلم ويحد من قيمته، إذ تكون العلوم مقدَّرة من خلال فوائدها حسب رأيهم ولهذا يتحدثون لصالح العلوم التطبيقية المفيدة للبشر. ولأن الثقافة العلمية تخصص إعلامي يقتضي إذا أريد له أن يتحقق بكفاءة تناسب احتياجات المجتمع أن تهتم به كليات ومعاهد الإعلام في البلاد العربية حتى تصنع لنا أجيالاً من المحررين العلميين القادرين على نقل الرسالة وشرح المضمون بدقة, بعيداً عن التهويل أو التهوين لخديعة القارئ، فظهر مصطلح ما يسمى (الرجل الثالث).. الذي تعرفه الدكتورة عواطف عبدالجليل بأنه الوسيط بين مراكز البحث العلمي والعلماء وبين الجماهير المتعطشة للعلم، وقد يكون أيضاً العالم نفسه أو أي إعلامي متطوع لنشر المعلومة العلمية مبسطة ؛ فهو الخبير الإعلامي أي المتخصص علمياً وإعلامياً ولديه الرغبة الملتهبة للعمل في مجال تبسيط العلوم وفي نفس الوقت يملك الموهبة التي تمكنه من نقل العلم من مجتمع العلماء والمتخصصين إلى المجتمع الجماهيري.. وقد يعمل الرجل الثالث ضمن منظومات متخصصة لنشر الثقافة العلمية.. أخيراً لنتذكر عبارة الدكتور محمد عبدالسلام - الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء لعام 1979 م - حيث قال: “إن النهضة العلمية مشروطة بأن يشمل حب المعرفة المجتمع كله، وأن يكون سعيه في سبيل العلم هو سابق إصرار وتصميم . وهذا أيضاً هو بمثابة قانون اجتماعي سرى على كل المجتمعات فالثورة الصناعية في أوروبا لم تأت بمحض الصدفة، بل نتيجة عمل هادف ودؤوب قام به رجال جعلوا حب المعرفة رائدهم في الحياة”. فهل شمل حب المعرفة مجتمعنا العربي؟ أترك الجواب لكم ….