سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الرحيل من بغداد.. ماذا تفعل الديكتاتورية بالإنسان ؟! فيلم عراقي مختلف أنجزه الجنابي قبل أن تبدأ أحداث ما يعرف بالربيع العربي التي شهدها العام 2011م استعرض عهد القذافي وما فعله صدام في العراق
ربما يكون المخرج العراقي قتيبة الجنابي سمع أو رأى المواطن الليبي الذي أظهره “الربيع العربي” على شاشات التلفزة، ليدلل على أنه يمكن للديكتاتورية أن تصنع أي شيء بالإنسان، بما في ذلك سلب إنسانيته وآدميته، فهو يصف ما أحدثه فيه جبروت معمر القذافي من دمار نفسي، بأن الأمر وصل به حتى عدم القدرة على النظر في المرآة، وعجزه عن النوم مع زوجته، حتى إنه يشهد أن القذافي جعل الليبيين يكرهون أنفسهم، وربما لم يكن الجنابي سمع بذلك الرجل. لكن الجنابي حتماً كان قد أنجز فيلمه “الرحيل من بغداد” قبل أن تبدأ أحداث ما يعرف بالربيع العربي التي شهدها العام 2011م، لتسمح لذلك الرجل بالظهور والتعبير عما فعلت به عهود القذافي، فبالمقابل عايش الجنابي حتماً ما فعله صدام حسين وديكتاتوريته بالعراقيين، وعندما بدأ التفكير بفيلمه، كانت آثار الديكتاتورية تقف شاخصة أمام عينيه، وكان هو بحاجة للحديث عنها بطريقته. إنتاج الديكتاتورية لا يقلد الجنابي أحداً، هو فقط يعيد إنتاج الديكتاتورية عبر مخيلة تمتلك القدرة على استحضار ما لم يفطن إليه الآخرون عنها، وما لم يروه الشهود على عصرها ومعالمه، فلا أحد يمكنه تخيل أبٍ يشي بابنه للديكتاتور وأعوانه، وتسليمه لأيدي الجلادين، ومن ثمَّ تصوير لحظة إعدامه بكل برود، يبدو الأمر وكأنه مقطع من إحدى الروايات التي تسخر من ديكتاتوريي جمهوريات الموز، لكنه في فيلم “الرحيل من بغداد” يظهر واقعاً جلياً، ولأجل تأكيد واقعيته وحقيقته يستخدم المخرج مقاطع من صور التعذيب والإعدام التي كانت أجهزة أمن الديكتاتور تقوم بتصويرها لتوثيق بطولاتها في سحق المعارضين، والانتقاص من أدميتهم، وكأنها تقوم بتصوير أفلام سينمائية لا أكثر، بل إن مصوري الأفلام يحتاجون إلى كثير من الوقت لإتقان أعمالهم وتنقيتها من العيوب. تكثيف الحدث وتفصيله يعمد الجنابي إلى تكثيف الحدث وتفصيله على مقاسات شخصيات محددة، وهو في ذلك ينجو من التطويل والعبث البصري، بل إنه يستغرق في الأداء المهني ضمن سياق يحمل من الشاعرية والخيال ما يكفي للاقتراب من الرسالة التي يقدمها، دون الغوص في التفاصيل التي تشرح وتوضح وتقدم كل شيء، بل إنه يكتفي بتقديم إشارات إلى المعنى الذي يريده، ويترك للمتابع مهمة الوصول إليه بجهد ذهني خاص. ما قبل وبعد صدام كما لا يجهد الجنابي نفسه في قراءة واستحضار الصورة التقليدية للعراق ما قبل أو ما بعد صدام حسين، فهو إذ يبدو وكأنه يقدم فيلماً وثائقياً داخل الفيلم الروائي، ينجح في تقديم نموذج جديد من نماذج المعالجة السينمائية لقضية الديكتاتورية، ومع ذلك ففي الفيلم شخصية واحدة رئيسية فقط، وبقية الشخصيات تمر على هذه الشخصية مروراً عابراً، قد تصنع تحولاً في مسيرتها، أو تتركها تمضي على نفس الطريق الذي اختارته مكرهة، وهو الطريق الذي لم تكن نهايته لتختلف كثيراً عن نهاية خيار البقاء في العراق تحت رحمة جلادي الديكتاتور، فيما ثمة شخصيتان تحضران طوال الفيلم عبر أفكار وخواطر ورسائل واتصالات صادق، دون أن تظهر إحداها على الشاشة أو نسمع لها صوتاً، لكنهما بدتا كشخصيتين رئيسيتين أيضاً. توثيق حالات التعذيب كان صادق مُصوِّرا فوتوغرافياً قبل أن يأخذه زبانية الديكتاتور للعمل كموثق لحالات التعذيب والإعدام والقتل التي تنفذها أجهزة أمن صدام حسين، وخلال مقاطع الذكرى التي تمر ببال صادق في رحلة الهروب، يستعرض الجنابي صوراً من أرشيف أجهزة القمع لحالات الضرب بالهراوات الأسلاك والأسواط، وبتر الرؤوس والألسن والأطراف والأصابع ورمي المناهضين من سطوح بنايات عالية، وتفجير أجسادهم بعبوات ناسفة عن بعد، وهي المقاطع التي بدت كأنها فيلم وثائقي داخل الفيلم الروائي. شتات الأسرة وكانت أم سمير تظهر فقط في حديث يدور على الهواتف العمومية في بودابست، وهو الحديث الذي تكرر عدة مرات على مدى أكثر من نصف الفيلم، كان صادق يطلب من زوجته التي سبقته بالهروب من بغداد، وأقامت في لندن، إرسال المال الذي سيمكنه من الوصول إليها، في كل اتصال كان نفس الحديث يتردد، ويبدو أن الزوجة التي لم نسمعها مطلقاً تعد زوجها بما يطلبه، لكنه تخلف وعدها في كل مرة، يبدأ المشاهد مع الوقت في ازدراء الزوجة التي تركت زوجها لمصير مجهول، ومع الوقت يتصاعد التعاطف مع صادق أكثر وأكثر، وحتى في لحظات قراءة رسائله الذهنية لابنه، وعتابه له على انتمائه إلى الحزب الشيوعي، وهو الأمر الذي تسبب في شتات الأسرة، لا يملك المرء سوى الاقتناع ببراءة الرجل الذي يبدو كامرئ بسيط لا يفقه في السياسة شيئاً، وطوال هذه الرحلة يتساءل المشاهد عن مصير سمير الذي لم يظهر إلا من خلال تلك الرسائل، لكن يبقى سبب مماطلة الزوجة ورفضها مجهولاً، إلا أن ثمة احتمالا أن يكون انتماء زوجها لأجهزة القمع هو السبب، فيمَ يمكن الاعتقاد أن مصير سمير المجهول هو السبب الأهم، لكن ذلك يتأكد بقوة في نهاية الفيلم. هاجس الانتقام تتم ملاحقة صادق، ويدرك هو أن ذلك سيحدث حتماً، وأن حياته حتى وهو خارج العراق ليست في أمان، قد يكون سبب ملاحقته ما يملكه من أسرار أمنية، وقد يكون اعتباره في نظر تلك الأجهزة خائناً، وهو ما يعني ضرورة الانتقام منه مهما كان بعيداً، يعيش صادق بهذا الهاجس، لكنه لا يستطيع اتخاذ احتياطات كثيرة، فهو يسأل كل من يجده من العرب في بودابست عن إمكانية الوصول إلى لندن، وعن أية إمكانية لحصوله على مساعدة، ويبيع خلال ذلك كاميراته وكل ما يملك، حتى يقع في يد أحد المكلفين بملاحقته، فيتعرف عليه من خلال الصورة التي وصلته من أجهزة المخابرات العراقية، ويستدرجه إلى المكان الذي يتم اصطياده فيه كطريدة لا يكلف قتلها أكثر من طلقة واحدة، وفي تلك اللحظة يستعرض شريط ذكرياته مصير ابنه الذي تم إعدامه بالسيف وهو يقوم بتوثيق العملية، وهنا تحدث الصدمة للمشاهد المتعاطف معه منذ البداية. رحلة الهروب يبدو موت صادق ضرورياً كعنوان لخلاصه وتطهيره من إثم الوشاية بالابن، والعذاب الذي يلاحقه في رحلة الهروب باتجاه لندن، وهي ثيمة ليس الجنابي أول من استخدمها، لكن استخدامه لها لا يعني استنساخها، فثمة قصة كانت ضرورتها الدرامية تؤدي إلى ذلك المصير، لكن ما يعيب الفيلم اختفاء النساء من جميع مشاهده ولقطاته فلم تظهر فيه سوى شخصية الزوجة ضمنياً بدون صورة أو صوت يدل على وجودها، في حين كانت الأماكن التي اختيرت للتصوير غير واضحة الهوية والملامح، فلا شيء يثبت لكل المشاهدين أن تلك المدينة بودابست مثلاً، وتبدو أحاديث صادق مع زوجته عبر الهاتف مكررة بشكل لا معنى له، فقد كان بإمكان المخرج إخفاء الصوت بعد المكالمة الثانية، وترك الصورة تتحدث، إلا إنه يمكن القول أن ذلك التكرار جعل المشاهد يتواطأ أكثر مع صادق، ويبدأ في ازدراء زوجته، وهذا خدم سياق الفيلم والخداع الذي أراده الجنابي كثيراً. النهاية خدع الجنابي المشاهدين تماماً منذ البداية، فهو إذ أوهمهم أن سمير قتل في الحرب، أو أعدم بسبب تخاذله عن القتال في الحرب ضد إيران، كشف في النهاية عن المصير الحقيقي له بعد وشاية الأب الذي حاول الحفاظ على منصبه، واعتقد أن الوشاية بابنه ستنجيه من العقاب، وحينما جعل المتابع ينتظر وصول المعونة المالية من الزوجة، كشفت النهاية أن الزوجة تواطأت ضده، وبالمثل كانت حكاية الرجل الذي أبدى استعداده لمساعدته على الوصول إلى لندن، اتضح أنه يتبع المخابرات العراقية التي تلاحقه للاقتصاص منه، بعد أن سرى ظن بأن مسألة الملاحقة ليست سوى وهم ينمو في مخيلة رجل هارب ومذعور. ويبدو أن ثمة معضلة تسكن الذهن عقب مشاهد الفيلم، إذ يمكن التصديق بقصة وشاية رجل بابنه لأجهزة أمن النظام إما للحفاظ على منصبه، أو الخوف على مصير بقية الأسرة، أو للإيمان بالمبادئ الفاشية لهذا النظام، والحالة الأخيرة كانت شائعة بشكل مفرط في عراق صدام حسين، لكن ما لا يمكنه الاستقرار في الذهن أن هذا الأب سيحن إلى ابنه كل لحظة، وسيحمل صورته في جيبه للتطلع فيها كلما هبَّ الحنين، أو إبرازها لكل من يصادفه منتشياً وحزيناً في آن. هي الديكتاتورية تفعل كل شيء في الإنسان، لكن الإنسان يبقى، والديكتاتورية ترحل دائماً، كان الجنابي ركض هارباً من عراق الخوف، والآن يعود إليه، ومنه ينتج هذا العمل السينمائي الذي يقول للآخرين إن العراق الذي كان موتاً وضياعاً وشتاتاً؛ أصبح يخطو في طرق الضوء، ويحضر في كل مكان.. الرحيل من بغداد فيلم عراقي مختلف، لم يسر على نفس الطريق التي يعبرها غالبية المخرجين العراقيين، كما أنه استحضر أجواء الحرب التي عاشتها العراق بطريقة مبتكرة، وبقصة مبتكرة، واستحق أن يحصل على عدد من الجوائز في عدد من المهرجانات.