تعرف جيداً يا أستاذ عبدالله علوان أنني لم أكتب نعي الاتحاد لك حتى هذه اللحظة، كما أني لم أكلّف نفسي حتى كتابة خبر من ثلاثة أسطر عن رحيلك المفجع، فكيف تظهر لي فجأة بابتسامتك الشهيرة لتلعنني وتلعن فيّ جميع الكتّاب والمثقفين والمؤسسات التي تقوم بهم وعليهم، كما كنت تفعل دائماً، لأنني لم أكتب مقالة تتبجح بوجعي لرحيلك، وتستقطر عطف الناس عليّ لا عليك أنت.. بحكم علاقتي الطويلة بك وحبي الشديد لك وطول ما بيني وبينك من عشرة؛ فلن تصدّق أيضاً أنني حلفت ألا أكتب عنك، ها أنت تضحك ساخراً مني، وبصوتك العالي المجلجل ستنال من الشللية والكتّاب المشبوهين وسماسرة البيع والشراء في الإبداع والمبدعين والأدعياء وأنصاف الكتّاب والمنتسبين إلى الأدب مع شهرتهم بقلّة الأدب. ستفعل كل ذلك في نفس واحد كعادتك وستذكرهم واحداً واحداً وقرين كل واحد منهم توصيفك الخاص الذي جعلته علامة عليه منذ أربعين سنة. أتدري يا ابن علوان أنني أندم على كل لحظة حاولت فيها خلال السنوات الماضية التخفيف من محاولاتك الجادة لتعريتهم وإظهارهم على حقيقتهم. بدأ ندمي في تلك اللحظة التي أمسكت فيها برأسك النبيل حين أخرجوك من ثلاجة المستشفى مجلّلاً ببياض الكفن؛ وقتها رحت أتلفّت علّي أجد من الأدباء من يوقظني من هذا الحلم السخيف ليقول لي: إنه مجرد حلم، حلم لا غير؛ عبدالله علوان لم يمت..!!. لكنني وأنا أتلفّت مذبوحاً برحيلك لم أكن أجد حولي سوى صراخ القعود الغاضب من تأخرهم عن حضور ساعتك ودموع الشاب أحمد عمر التي راح يسكبها بحزن تخرُّ له الجبال، واسترجاعات عادل سمنان غير المصدّق لواقع اللحظة المحرج وصدمة ابنك عقيل وابنتك لينا للخذلان الذي يتعرّض له أبوهم. لحظتها وأنا أمسك بوجهك الحبيب وأطلب منك المسامحة؛ قرّرت ألا أكتب عنك حتى النعي الذي يفترض أن أقوم به كواجب نقابي؛ قرّرت ألا أكتبه. حين انهمرت دموعي وأنا أقبّل جبينك خالجني شعور أعرفه لأول مرة في حياتي: ما معنى أن أكتب، ما فائدة أن أكتب، ولماذا أكتب، وهل سينقص الكون شيء إن أنا لم أكتب..؟!. هل ستغير كتابتي خبراً عن عبدالله علوان أو مقالاً في رحيله أو نعياً له من فظاعة وفجاجة وجور اللحظة؛ ها هو عبدالله علوان الذي كتب أكثر من عشرين كتاباً، وتحدّث عن عشرات الأدباء من كل الأجيال، وأخذ بأيدي عشرات المبدعين تقديماً وتوجيهاً ونقداً ودعماً مادياً ومعنوياً ومواقف وخدمات لا حصر لها يرحل منكوراً من كل شيء بدليل أن جنازته لم يأتِ لوداعها سوى أربعة أفراد؛ أيستحق هذا الواقع الجحود أن نكتب له، أيجوز أن نكتب عنك لمن بخلوا عليك حتى بإلقاء نظرة الوداع عليك..؟!. منذ سنوات طويلة وأنا أكتب وأكتب يا أستاذ عبدالله، وعلى كثرة إحباطات الرحلة وما جنته عليّ من عذابات حياتية ومشاكل مادية ومعنوية، إلا أنني لم أفكّر يوماً في تفاهة هذه المهنة، لم يخالجني شك في جدواها؛ بل العكس تماماً فربما لم يؤمن بها أحد كما آمنت. حتى إن زوجتي وأطفالي وأهلي وزملائي الأدباء الذين يعرفون معاناتي بسببها وقلّة جدواها عليّ ليضربوا بي المثل في الإخلاص لما لا نفع فيه، أنت تعرف هذا فقد سمعته منهم مراراً، وكنت الوحيد الذي ينصحني بعدم الإصغاء إليهم؛ لكني اليوم شعرت باللا جدوى اليوم يا أستاذ، وفي اللحظة التي كنت أمسك فيها بوجهك الحبيب نازفاً ألمي وقهري كلّه؛ شعرت لأول مرة باللا جدوى من الكتابة، الكتابة يا أستاذ كذبة كبيرة، لا وجود لشيء مادام لا نفع فيه، والكتّاب كذبة أكبر من الكتابة ما داموا بلا نفع لأنفسهم قبل غيرهم، كيف نكتب شيئاً لا نفع فيه لأناس لا نفع فيهم عن أناس لا نفع فيهم..؟!. لا تضحك لي ضحكتك الساخرة، ولا تسمّع بي أرجوك؛ فأنا حزين عليك، مكلوم بك، متعب بفقدك، وأنت لا تصدق، لا تصدق لأنك لا تعرف مكانة وقدر عبدالله علوان عندي. والاّ أقول لك ثمة نكتة ستضحكك وستفتح لك مجالاً للسخرية وكيل اللعنات؛ زملائي في الأمانة العامة وسائر الأدباء يبحثون عنّي بغضب شديد بسبب تأخر بيان النعي، ليس مهمّاً أن تكون قد تعذّبت وقطع الأطباء أوصالك دون تخدير، وليس مهمّاً أن تكون دولتك قد تأخّرت عن نجدتك وتوانت عن إرسالك إلى الخارج كما يليق بقامة كبيرة كقامتك الإبداعية، وليس مهمّاً أن تخرج جنازتك يتيمة بلا وداع ولا مشيّعين، ولا أي نوع من الحفاوة بعد أن تجاهلك كل من قدّمت لهم ضروب الاحتفاءات طيلة حياتك.. المهم الآن البيان.. البيان مهم لناحية التوثيق لالتزام أمانتنا للاتحاد بواجباتها، أكثر من ذلك هو مهم لي أنا بالذات بوصفي أمين الحريات والحقوق. ها أنا ذا أقصّر حتى في حق أقرب الناس إليّ، الرجل الذي طالما زعمت أنني محروق القلب عليه، وكتبت عديد الحالات والمقالات مطالباً بتوفير ظروف علاج أفضل له. سيعتبرون كل ما كتبته عنك مجرد مزايدات وحملة انتخابية مبكرة؛ إذ كيف أفعل كل ذلك وأتوانى الآن عمّا هو أكثر أهمية كتابة بيان نعيك..؟!. هل مرت بك يا أستاذ عبدالله علوان مفارقة أوسخ وأتفه من هذه المفارقة..؟!. هيا رد عليّ، أسمعني صوتك الصاخب المجلجل، أسمعني ضجيجك وعرعراتك يا بن علوان، ابن علوان، أستاذ عبدالله، أستاذ عبدالله.