يمضي عابد عازرية في مشروعه الفني كصوت منفرد أخذ على عاتقه مهمة الاشتغال على توسيع نطاقات التلقي لدى الذائقة العربية حيث يسعى إلى تخليق ذائقة عالية تستند على خلفية ثقافية واحيانا رؤية نخبوية معاكسة للتيار الموسيقي العام و السائد, ذائقة نقية متمكنة من تحسس نتاجات موسيقية اعتنائية. عازرية, الموسيقار السوري المقيم في فرنسا منذ عقود, انتهج لنفسه مساراً فنياً خاصاً حيث أهتم بغناء الشعر العربي عبر مراحل تاريخية مختلفة (القديم و الأندلسي و المعاصر) فغنى قصائد لشعراء عرب قدامى كالمعري و المتنبي و قيس بن الملوح و طرفة بن العبد وكذلك غنى نصاً خطابيا للأمام علي بن أبي طالب و نصوصاً من إنجيل يوحنا, و من قصائد كبار المتصوفة قدم للحلاج و عمر الخيام و رابعة العدوية و النفري و الشبلي. في الشعر المعاصر اختار عازرية قصائد لكوكبة من كبار الشعراء كأدونيس و انسي الحاج و يوسف خال و بدر شاكر السياب و محمود درويش و سميح القاسم و خليل حاوي. كذلك اقدم عازرية على جرأة فنية غير مسبوقة تمثلت في غناء ملحمة جلجامش بأكملها في عمل طويل مدته ساعة يوظف فيه عازرية تلوينات صوته بطبقاته المتعددة مع إضفاء طابع درامي على النص تتوافق وأجوائه المختلفة باختلاف الأحداث و الانتقالات الحكائية وبما يتناسب مع روح النص الملحمي, و قد سبق في عمله هذا المطرب العراقي كاظم الساهر الذي كان قد اعلن منذ سنوات عن اعتزامه تقديم الملحمة البابلية في عمل أوركسترالي لم يخرج للنور بعد. هكذا يبدو جليا أن عازرية حريص على المضي في مشروع نوعي ارتقائي يجمع الشعر العربي القديم والحديث ,إيماناً منه بأن الموسيقى تعطي زخما قويا للشعر فيغتني كل منهما بالآخر, هذا إلى جانب الميثولوجيا والنص الروحي والصوفي ضمن قالب موسيقي يزاوج الموسيقى الشرقية العريقة - فهو ابن مدينة حلب الشهيرة بقدودها الحلبية و تراثها الغنائي- مع الموسيقى الغربية و بخاصة الموسيقى الإسبانية و الأوركسترا. تجربة عازرية الموسيقية تكشف عن حرصه الدائم على التجديد و المغامرة و اكتشاف آفاق جمالية مختلفة الأبعاد تعيد الاعتبار للمستمع كونها تجتهد في صياغة محتوى و شكل جديدين بدأب و صبر بحيث يصبح العمل الموسيقي لغة متعمقة الدلالات, يتواشج فيها الجمالي بالمعرفي بالرؤيوي.. و لأن عازرية متوهج الطموح فهو يعكف مؤخراً على إنتاج عمل موسيقي بمثابة حوار بين الشرق و الغرب يقدم من خلاله نصوصاً للشاعر الفارسي حافظ الشيرازي و الأديب الألماني جوته و هذا تأكيد ضمني جديد على ما ذهبت إليه الدراسات الأدبية من أن الأدب الرومانسي الأوربي تأثر كثيراً بالتراث الشعري الفارسي.