من فترة و أنا أريد الكتابة عن تعز، محافظتي الغالية، ومهد الصبا الذي ترعرعنا فيه، واستنشقنا من هوائها العذب أعبق النسيمات الأصيلة، استقينا منها أصفى الأمنيات، أكتب عنها – مثل غيري - كنوع من ردّ الجميل لهذه «المحروسة» التي احتوتنا بدفئها، واستوعبتنا بحنانها، فكانت لنا الأم الرؤوم التي تخاف على أبنائها من كل سوء، وتحفظهم من كل مكروه، وتنادي بهم في كل لحظة تفتقدهم فيها، إنها تعز، حالمة الحرف والقلم، ومليحة اليمن، وشامة وجهها الوضيء، فمن أين نبدأ الحديث عنها، أمن شموخ جبالها، أم من تراث حضارتها، أم من عراقة مساجدها، أم نسير بالحدث حيث الجمال يتجلّى في رحابها من كل مكان تشتم منه رائحة هذه المحافظ التي يؤمها الناس شوقاً وسياحة ونزهة من كل حدب وصوب من بقاع هذا الوطن الميمون؟. إنك كما قال عنها أحدهم – « بقدومك إليها تتراءى لك ثلاثة أحوال لها، مستلقية على سفح جبل صبر أو متكئة برأسها على الجبل الحاني عليها بكل تواضع وإجلال، أو أنها فضلت أن تكون منخفضة عنه ليتلاءم البشر على العيش معها أكثر، فتوفر المأوى والحضن الدافئ لكل قادم ومقيم فيها، تراها ممشوقة القوام كالكلمة الطيبة، يلفها النسيم من وادي الضباب وحتى البركاني كقلب خافق بين حنايا الرئتين، تسمع لها تنهدات عند السحر من مآذن المظفر والأشرفية فتتجاوب معها أشعة الشمس القادمة من الحوبان لتلف المدينة إلى عالم الحقيقة ويكشف الغطاء عن جمال اختبأ بستار من الليل ليتكرر المشهد يومياً بين اغتسال في البحر ليلاً على شرفة باب المندب وشراء فل من البرح وهجدة وليكسوها الصباح ثوباً شفافاً يبين كافة مفاتنها، فتراها خجولة كالعروس يمدها وادي الضباب بذلك العبير الذي يتخلل أردانها وكل خصلة من شعرها». لقد تشرفت بالعلم في قاعات الدرس الجامعية على يد رجل طيب من العراق، هو الدكتور قحطان التميمي، المعلم الذي خط فيه الشيب وهو لما يزل شاباً يعيش في أفياء هذه المدينة الوادعة التي رأى فيها الخير يكسوها من كل جانب، عشر من السنوات قضاها مدرساً في كلياتها، كتب خلالها قصيدة ظل يهذبها ويشذبها طوال هذه السنوات حتى بدت قصيدته كالشمس في ضحاها أو القمر إذا تلاها، قال فيها يصف المسير الذي مشاه عبر الطريق الجميل لهذه المدينة. باقٍ هواك و إن شطت بك الدار تغدو وقلبك في حبين حوّار بغداد حب نما في الروح منذ صغر وحب تعز جنان النور والنار كلتاهما جنة تزهو بما ملكت شموخها الحور والولدان أقمار لا تسألني أن اختار واحدة فالقلب للجنتين الخضر مختار إن كان لا بد من تعز لعاشقها فعشق بغداد قد خطته أقدار أي جمال هذا الذي يتحدث عنه الشاعر عن هذه الجميلة «مليحة الملاح ، وشامة الوجه اليماني» التي نشأ فيها ردحاً من الزمن رأى فيها أقباساً من الحب والجمال، زهت له نفسه، وسمت به روحه، ولشمه الزاكي تفتح وجدانه، إنه العطشان الذي لم يرتوي بعد من مائها العذب، يقدم خطوة في حبها فيشده وطنه الأم، لكنه لا يجد بداً في نهاية المطاف من الإعلان عن حبه لها، وهل يخفى حبه الذي كانه وقد كانت له تعز أم رؤوم انتهت عندها كثير من آماله، وتوقفت عند أعتابها كتل من أمنياته.. يصف نفسه بصاحب الحاجة وقد أتى إليها ظامئ الروح والقلب والوجدان علّه يجد فيها ما يسد رمقه المنهك، وقلبه المتعب، ووجدانه الذي أعياه الألم، فقال: فجئت تعزّ ولي في النفس حاجتها فكم أنال مراد النفس تسيار إني نزلت على رحب ديارهم فصرت ربّاً وأهل البيت زوار ما صح عندي مأثور غدا مثلاً من يتركن داره ينقصه مقدار لكنما المرء إن طال المقام به يملّه الأهل والإخوان والجار كالماء طيباً في تدفقه وإن توقف شاب الطعم إمرار ومرّت العشر مر ّالطيف في سحر عذباً لذيذاً فليت العمر أسحار إنها محطة كما يصفها الشاعر وصل إليها وقد كان قاب قوسين أو أدنى من انهيار عاطفي وشيك، أناخ فيها فإذا الأمان يعود إليه من جديد بعدما كان قد فقده في بلاده التي جاء منها بعد ما أخرجه بعض أبنائها.. وجد الماء العذب الزلال بعدما عاش سنين لا يعرف له طعماً في بيته الذي نشأ فيه، وجد أهلاً كأهله، وربعاً كربعه، وأبناءً كأبنائه، وصالات للدرس كصالات درس بلاده، قابل العطاء بالوفاء، فقال: لي فيك يا تعز أيام يولونها بالحب والخير نيسان وآذار يادام صبرك والوادي وسفحهما ودام شعبك يعلو هامه الغار شعبٌ بنى في الزمان الصعب وحدته وازّلزت بدوي الزحف أسوار ستٌ وعشرٌ مضت ذكرى مباركة بالنصر والعزّ يز هو اليوم تذكار لي في ربوعك والأيام شاهدة أحبّة صدقوا بالعهد أبرار أخوة العلم والآداب تجمعنا وعروة تلك وثقى ليس تنهار صافيتهم في الوداد الحلو أعذبه أقلّه معلن والجم إسرار صافيت كلية الآداب ألف هوى رقّت بألحانه الغنّاء أوتار يطوف أحلى مناه في مدارجها فيزدهي باسماً نور وأنوار عذبٌ شذاهُ رفيق في مخايله تشدو بأحلامه البيضاء أطيار والساح يخضر عوداً من مناهله ويكتسي حسنه نجم وأشجار أنسامه في رحاب الدرس ناشرة شهدا ًيلذّ لمن يجني ومشقار ذا الصرح مني وأنا منه ويعرفني فيه كتاب وأقلام وأحجار إنه الحب حين يتجلّى في أروع ما يكون تجليه، ويعلن عن نفسه في أحلى ما يكون الإعلان، كيف لا يكون حباً وقد عاش سنوات من أجمل سنوات عمره الذي كانت الريح ستذهب به حيث المجهول عندما تنكر له أبناء جلدته، لقد وجد في تعز حلمه كما هي حالمة الكثير من أبنائها، وجد فيها الكثير من المعاني التي كاد في لحظة أن تغيب عن حياته لولا أن القدر ساقه إليها ليلوّن حياته بشيء من هوائها ومائها وجمالها وظلالها وحياتها الوارفة. وفي نهاية المطاف لا يجد غضاضة من سكب دموعه المدرارة عن الفراق الصعب لهذه الحياة التي وجد فيها كثيراً مما افتقده في بلده الكريم الذي خرج منه مكرهاً، لأنه إنسان يحب الجمال، أعلن عن لحظة فاصلة في حياته هي أصعب قرار يتخذه في حياته، استساغه لمّا رأى بلاده مهيأة لأن يعود ليقضي فيها سني عمره المتبقية حتى قال: أقول والقلب لا ينوي معي سفراً ماذا وقوفك والفتيان قد ساروا إن كنت ترجو مقاماً في مرابعهم فكل ربع بأرض العرب معطار فاكتم بوادر بين حم موعده فما تذاع لأهل العشق أسرار واحزم حقائب صبر تستجير به فالعود أحمد ما شاقتك أسفار إنها تعز مليحة الملاح، وشامة الوجه اليماني كيف لا يجد فيها أمنيته في العيش الجميل والجمال يحفها من كل مكان، ويلفها من كل حدب وصوب أينما يممت له وجهاً، إنها تعز حالمة الإنسان التعزي الذي يسكب فيها أروع معاني الجمال، وأرقى خصال الفتنة التي تنعش النفوس، وتأخذ الأروح نحو آفاق واسعة من الحب والمتعة والسرور، إنها تعز يا أبناء تعز عيب أن يراها الآخرون بهذه العين، ونحن نراها بعين البندقية، ومرآة العبث، وسلاح الفوضى، إنها تعز مليحة الملاح وشامة الوجه اليماني، متى نعي ذلك؟!