مساجد الله العامرة والموجودة لتطهير القلوب من أدرانها, لا تمنع عابداً يقصدها أياً كان لونه وشكله, إلا أن السياسة ومطامعها أوجدت ذلك, والحاصل هو جماعات متصارعة تحاول أن تكبر من خلال الاستحواذ على أكبر عدد منها، وهكذا أصبحت بيوت الله ملاذاً سياسياً وحزبياً يبحث الجميع فيها عن ضالته، والمستمع «المقصود» من هذه الحرب أصبح لا يميز غثها من جيدها، وكان خياره الوحيد هو العودة للصلاة في البيت. المساجد لله.. نزهها الله عن الصراعات والنزاعات, وجعلها مأوى للشريد والطريد, والمظلوم والمكلوم, فهي محور التقاء الناس على الحب والإخاء والتعاون والتكافل, ومنها تصعد دعوات العباد إلى ربهم, وتفر من ألم السياسة وعنائها, وجور الحياة وشقاوتها، ليستريحوا فيها ويخففوا من آلامهم وبؤسهم. إلا أن لؤم السياسة وخلافاتها المشتعلة بين الأحزاب حولت هذه البيوت العامرة بذكر الله لأسواق نخاسة تعلو فيها الأصوات المحرضة، وتتلاقى فيها الحجج الواهية، وقد تسحق جماعة أخرى للحصول على منبرها “التحريضي” لتكسب موقعاً استثمارياً فاعلاً وتشري به “ أناس كثر” تنفعها وقت الحصاد والحاجة. الموقع حساس الخطباء بعمومهم وقعوا في صخب هذه الصراعات، سواء كانوا “معتدلين أو مشعلي فتنة” فالنار تلتهم الجميع دون سابق إنذار, فتقلبات الواقع و«الإفراط أو التفريط» من قبل بعض الدعاة أوجدت طرفين “ضدان” لا يقبل أحدهما بالآخر؛ لدرجة أن البعض سوّل لهم الشيطان بإغلاق الجوامع بالسلاسل والأصفاد. ثمة قصص كثيرة تحكي واقع الحال المؤلم، فهذا الشيخ. عبد القادر محمد (خطيب جامع قبا) الواقع في وادي القاضي، تم الاعتداء عليه من قبل بعض الجماعات بالضرب الجسمي، بل وصل بهم الأمر إلى تشويه سمعته, وضايقوه في بيته واتهموه بعقيدته, وألزموه ترك الدعاء في صلاة الفجر، وكادوا له المكائد، واستحلوا كرامته لأجل الحصول على المسجد الواقع بموقع حساس. يقول عبد القادر: اعتدوا عليّ بالضرب وهددوني بعنف إذا لم أسلم مفاتيح الجامع, وما لم فسوف يخرجوني بالطريقة التي أُخرج بها الخطيب السابق, بل وصل الأمر أن سلبوا معاشي الذي أتقاضاه من جهات خيرية، ورغم أنني امتثلت لتغيير بعض ما يطلبونه، إلا أن ذلك لم يعفني من بؤسهم. وزاد: المسجد ليس تابعاً للجهات المعنية بل لفاعل خير أقامني عليه, وأتمنى من الجهات المعنية أن توقف من يستخدمون القوة للاستيلاء على المساجد، فالإسلام ينهى عن العصبية وعن استخدام بيوت الله لخدمة مصالح حزبيه لأنها أماكن للذكر وللعبادة. مجرد مبرر عبدالله سعيد هو الآخر واعظ ومرشد، لمجرد أن تحدث عن جواز الاحتفال بمناسبة دينية مرت عن قريب، حصل مالم يكن بالحسبان، وحاولت بعض الجماعات إخراجه من المسجد الذي يتولى الإمامة فيه ، لأنه «ضال ومضلل»، عبدالله يؤكد أن الخلاف ليس فيما تحدث به إنما هو سياسي والكلام السابق مبرر للحصول على المسجد. وبالمقابل ينفي الخطيب وليد العدرسي قضية الاستحواذ على بيوت الله بالقوة من أصلها، فيما تتشتت تهم المواطنين وجاء سياقها: “حوثي مغرض، أو سلفي مفلس، أو إصلاحي محشد”، وأكدوا أيضاً أن بعضاً من هذه الجماعات تسعى لمد نفوذها عن طريق تلك الأماكن المنزهة، بعد أن فشل مضمارها عادت وبقوة إليها، تاركين تعاملات ومبادئ الدين وراء ظهورهم. جامع بخطيبين بعيداً عن المكسب السياسي ومن يدعم أو يقف وراء هذه التداعيات والفوضى الفكرية والسياسية، لابد من الإشارة إلى أن هذه الأساليب المنبوذة أبعدت العباد عن أماكن تتنزل فيها الرحمة, وتتضاعف فيها الحسنات, وهي «وسيلة» لا تتفق مع توجهنا الديني حتى وإن اختلفنا بالفكر والسياسة والمصالح, فذاك ليس مبرراً للجماعات والأحزاب السياسية أن تلجأ لذلك. وما يوضح الصورة أكثر بأنها قضية سياسية محضة، يراد منها السيطرة على الجوامع التي غالباً ما تكون صاحبة موقع حساس أو كبيرة تتسع لآلف المصلين. وما يدعم هذا الصراع القائم عليها ما يحصل بإحدى مساجد “الجحملية” فثمة جماعتان تتقاتلان دون مبالاة لغرض الاستيلاء عليه وعلى موقعه الهام, ما يزيد من الفرقة والتشتت بين المواطنين، تدار بينهما حروب كلامية مفرطة تثير استياء كثيرين، والأدهى والأمر أن للجامع خطيبين الأول يخطب في منبر الجامع والآخر في الشارع؛ وكل طرف ينضح بما في جعبته من كلام “شوارع” لا يليق باسم أي جماعة تدعي أنها دينية. المواطنون «السلعة» المبتغاة من كل «دوشة» منفذة, أقحموا في سماع خطباء “الغلظة”؛ أما الطامعون والمنهمكون بالدعوة لنصرة السياسة فيواصلون مسيرتهم المسيسة علها تنجح بالاستيلاء على المنابر, لتنفذ عراكها الكلامي وتوصل سهامها دون أن يرقبوا في مؤمن إلاً ولا ذمة، أو لمسجد كرامة. صفر على الشمال عارف علي (مواطن) يتمتم قائلاً: “صُدعت رؤوسنا “ من الخطابات السياسية التي انتقلت للمساجد، فالحليم أصبح حيراناً ولا يستطيع التمييز بين “غثها وسمينها”، المبررات والحجج هي نفسها. عارف ضاق ذرعاً من تلك الخلافات، ما جعله يقرر مع مجموعة “ليس لهم بالأمر ناقه ولا جمل” كانت تخطوا أقدامهم كل يوم صوب المسجد، والآن يتعبدون بالبيت، ويوم الجمعة يكتفون بلحاق الركعة الأخيرة، أو الهروب إلى مسجد آخر بعيد. منير الشميري يفصح بقوله: لجأت بعض التنظيمات الحزبية إلى المساجد لسببين الأول لأن المجتمع اليمني محافظ دينياً ويتأثر بالوسائل الدينية أكثر فلا يمكن استقطاب جمهور كثير من هؤلاء إلا عن طريق المساجد، والثاني كونها مكسب مالي فالبعض منها حولها لوسيلة يتقاضى منها الأموال عن طريق جمع التبرعات بأسماء حملات خيرية، ويضيف:- بيوت الله صارت مواقع لإثبات ذات بعض الجماعات، فلو حصل أن تخلت عنها ستجد نفسها صفراً على الشمال. “يضلون ويضللون” عمرو عباس “مرشد ديني” أنتقد ظاهرة تسمية المساجد بأسماء جماعات وطوائف وقبائل، لأن ذلك يجعل المستمعين منقسمين، وكل فرد يذهب لجماعته يستقي منها ثقافته، وأضاف: يجب أن تدرج جميع المساجد ضمن وزارة الأوقاف، سواء كانت لفاعلين الخير أو من تكاليف الدولة، وهي تحدد من يقيم عليها وتضع المقاييس والشروط للخطاب الديني، حتى تعود المساجد للهدف الرئيسي من إيجادها، ويردف: بعض الجماعات المتطرفة حريصة عليها لغرض إثارة الناس على مطامع سياسية ينالونها، فالمساجد التي لم تكن تحت إشرافهم ولم تؤت ثمارها في مشروعهم السياسي، ولهذا سعوا جاهدين للانقضاض وإحكام السيطرة عليها ل “يضلون ويضللون”. الخطيب المبرمج كان لنا لقاء مع الدكتور محمد حمود الأهدل “مدير إدارة الوعظ والإرشاد بمكتب أوقاف تعز”، لمعرفة دورهم في الحد من هذه الظاهرة، حيث قال: المساجد بيوت الله التي ينبغي أن تكون له وحده سبحانه القائل (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً )، واليوم هناك من يستولي على المساجد ويخرجها عما ينبغي أن تكون عليه، فهي مؤسسات عباديه لجميع الأمة, ولا يجوز شرعا أو عقلا أن تتمحور وتكون لفئة أو حزب سياسي أو جماعة، لأن تحويلها لذلك ينافي عالميتها ونهجها العام. وعن الخلاف الحاصل يؤكد الأهدل أن الخلافات التي تحدث هذه الأيام هي خلافات سياسية تحمل طابعاً مذهبياً ضيقاً يراد بها السطو على بيوت الله, ويجب على أصحاب الرؤى السياسية أن ينزهوا بيوت الله عن المهاترات السياسية، أو أن يجعلوها مقرات، فالأحزاب لها مقرات معروفه; ويزيد: الخطيب المتمكن المطالع والمثقف ثقافة إسلاميه واسعة يدرك أنه مسئول عن كل كلمه يقولها على منبره, ويضبطه الخشية من الله ومراقبة النفس, فيما الخطيب المبرمج والموجه من قبل (حزبه أو فئته أو مذهبه) لا يدرك مسئوليته، ويتجه بالخطاب نحو التأزيم والصراع والمناكفات والرؤى السياسية الضيقة، وهي الحقيقة الحاصلة في أغلب المساجد. السيطرة هي الأغلب وعن المساجد التابعة للإدارة يوضح قائلاً: المساجد الموجودة في المحافظة على مستوى المدينة والريف تابعه لجمعيات, وهي مسيطرة عليها ولها برامج فكرية من وضعها, أما التابعة للإدارة لا يهتم بها لعدم وجود مسئولية، والعشوائية في بناء الخطاب والتوجيه والسيطرة هي الأغلب في الحقيقة, وما يوجد من اختلالات وصراعات فكرية وتكفيرية وسياسية ومذهبية لها خلفياتها السياسية، ولا استبعد المخلات السياسية, وأما جانب الوزارة في هذا الشأن فلها معالجاتها من خلال ترشيد الخطاب الديني والدورات واللقاءات، لكن للأسف القوى النافذة هي التي تتحكم. ويختم: نريد إعادة ترتيب العقل الخطابي وتوسعته المعرفية، واستشعار المسئولية، وإدراك المرحلة العصيبة التي تمر بها اليمن والعالم الإسلامي, والتركيز على القواسم المشتركة التي تجمع ولا تفرق وتصلح ولا تفسد وتبني ولا تهدم, وننصح كل مسلم بالحكمة والموعظة الحسنة.