وانتهى المونديال الذي جاء بحرارة فاقت موجة الحر التي تضرب أجزاءً كبيرة من الكرة الأرضية ،الصخب الذي صاحب المونديال أثار الكثير من الجدل حول أهميته في ظل الأحداث الدامية التي تعصف ببقاع متعددة من الدول و خاصة منطقة الشرق الاوسط..واعتبر الاغلبية من النخبة أن الدعاية القوية للمونديال هي جزء من مؤمراة عظيمة لصرف انظار الشعوب عن مآسي الربيع العربي المنتكس وأزمات العالم الثالث المتزايدة بسبب جشع وطغيان الأقوياء واستدلوا على ذلك ان هؤلاء الاقوياء غير متواجدين بقوة في هكذا مونديلات فلم نسمع بتأهل المنتخب الامريكي أو الصيني أو الروسي مثلا لمراتب متقدمة في النهائيات. وعلى كل حال جاء المونديال وانتهى وكان صخبه ووقعه المؤثر والذي يجب ان لا تفوتنا دراسته واستلهام دروس هامة منه تساعدنا على التعامل الانساني والتربوي مع بعضنا البعض لذا دعونا نلخصها في النقاط التالية: لماذا تلتف الشعوب بقوة لمونديلات كأس العالم بالذات مع انها مجرد لعبة في أصلها؟؟الواضح ان الشعوب تبحث في اعماقها الفطرية عن شئ يشعرها بالتواصل مع بعضها البعض بعيدا عن الفوارق الطبقية او الدينية او العرقية.. وكان وسيظل حلم اننا اسرة واحدة تتعايش على هذا الكوكب حلم قوي و نابض على الرغم من الدعوات العنصرية و السامية..كرة القدم لغة ومساحة و رقعة مشتركة تحقق هذا الحلم ولو بشكل مبسط و بدائي تعرضت الشعوب بكاملها لعمليات غسيل مخ قوية من الساسة وأصحاب السطوة لتمجيد الفردية لكنها ظلت بفطرتها قادرة على التمسك بحبها وميولها الشديد للعمل الجماعي المنسجم.. كرة القدم من بين كل الالعاب تتفرد بالعدد الاكبر للفريق الواحد وفوز الفريق يرتكز بشكل اساسي وجوهري على انسجام هذا الفريق مهما تباينت اصول اعضائه وصفاتهم ودياناتهم. سئمت الجماهير من الغوغائية و الغثائية التي تعيشها...سئمت من الاهداف الخفية والمعلومات السرية لحكوماتها و قادتها على كل المستويات..سئمت من شعورها بالضياع وعدم معرفتها مما يتوجب عليها فعله في حياتها.. ذلك الشعور الذي تكرسه خطابات الاستهلاك ويومك يومك و الوناسة والسمع و الطاعة العمياء لأولي الأمر منكم...حتى على مستوى الاسرة يأمر رب العائلة وينهى و يحرك الافراد كقطع شطرنج دون ان يعرفوا الى اين يذهبون وممنوع تسأل او تقترح.. كرة القدم لديها هدف واضح ان تهز شباك الفريق الآخر...أن تتأهل للنهائيات..وأن تنال الكأس..مسارات واضحة تجعل الجماهير تشارك بكل قوتها لتحقيقه أو المساعدة في تحقيقه. هذا المونديال تميز بقوة حراس المرمى في إشارة خفية على ان الوقاية خير من العلاج وان المناعة و المحافظة على سجلك نظيف افضل من اشباع الخصم اهدافا ونقاطا.. استراتيجية ممتازة تركز على الذات اكثر من الآخر و تؤكد على النوع قبل الكم وفي النهاية هدف واحد مقابل مرمى نظيف حسم المونديال. الكثير من النخب العربية استاءت من انكباب الناس على المباريات في موسم رمضان و مذابح غزة وسوريا ووو.. الحقيقة ان هذه الشعوب تعبر عن خيبة املها لسقوط ابطال سياسيين ومفكرين و نجوم جماهيريين.. ذلك السقوط الفاضح الذي انكشف في الربيع العربي و الثورات المضادة له..الهرج والمرج جعل التمييز صعب على الغالبية لذا فهم يبحثون عن ابطال مخلصين يحققون انتصارات لا يموت فيها احد ولا يبيع فيها احد ولائه من اجل حفنة مصالح...ابطال يثابرون و يجتهدون ويحرصون على اسعاد مشجعيهم و التفوق على انفسهم من خلال مهاراتهم و ليس من خلال الخداع والغش تحت الطاولة.. ما فتئت الفضائيات و الخطب الموجهة و الحملات الدعائية ان تكرس فكرة سيادة المال و البطش و هوس التسلح لكن كرة القدم طرحت في كل مونديال سيادة امور اكثر جوهرية و معنوية.. شغف البرازيل الدولة الفقيرة بلعب كرة القدم بأقدام حافية جعلها قادرة على ابهار العالم مرارا في حين لا نرى البتة اي من نوادي الدول الخليجية لأن المال لا يعني الشغف.. واندفاع القطيع لرعاة البقر الامريكيين تندحر أمام تكتيت وحنكة شعوب عريقة كفرنسا.. فالعنجهية لا تعني الصدارة. من جهة أخرى نجد ان النفسية العلوية للشعوب هي من تنتصر في النهاية..الشعور بالتقدير للذات يقف بقوة أمام اي عوامل اخرى ليصنع مجد نظيف.. فالطريف ان المتصدر للمونديال غالبا هو من الدول المستعمَرة امام الدول الغازية.. مثلا اسبانيا تتراجع و تصعد الارجنتين.. والعجيب ان المانيا الدولة المسحوقة بعد الحرب العالمية الثانية في منتصف هذا القرن استطاعت الحفاظ على تصدر منتظم لمباراة الكأس النهائية (8 مرات)، والذي يعرف حجم الاذلال الذي نالته المانيا من دول الحلفاء سيدرك ان هناك رغبة خارقة في اثبات الذات في ذاكرة العالم من جديد بعيدا عن الدمار و الحروب للنازية. الأمل في التغيير مازال في قمة أمنيات الجماهير.. وجود فرصة لأصعد لو اجتهدت و ثابرت حلم جميل يتشاركه الجميع والمونديال حقق ذلك فرق عريقة تراجعت كايطاليا وانجلترا وفرق صعدت مثل كولومبيا و تشيلي.. هزيمة مذلة للبرازيل وسقوط مفاجئ لأسبانيا بينما يتقدم المثابرون على النجاح لأنهم يمارسون النجاح بلا غرور نقصد ألمانيا بالطبع. تعاني المجتمعات من ضعف تواصلها فيما بينها..بمعنى ان الزوجات تشكو من بعد ازواجهن.. والابناء يعانون من تسلط اباءهم.. والشباب مازالوا كوكب غامض للنخبة لهم طقوسهم ولغتهم وملفاتهم السرية.. مفتاح الحل لكل ذلك تقنية المساحة المشتركة.. لو وجدت مساحة مشتركة واحدة مع الطرف الاخر فقد فتحت خط واعد للعلاقة معه.. ومع الوقت ستمكنك المساحة المشتركة من الاقتراب منه والانطلاق الى غيرها من المواضيع التي تريد مناقشتها معه.. مثلا أنا أب اعاني ان ابني المراهق بعيد وغامض ومنغلق و متدهور في حياته.. يمكنني ان اجعل المونديال مساحة مشتركة معه.. فهو مهتم بها سواء قبلت ام عارضت.. اجلس معه لمتابعة المباريات المهمة و اسمح له بطرح معلوماته من خلال اسئلتي الجادة و المتواضعة امام خلفيته القوية للمنتخبات و اللاعبين.. هذا سيعطيه فرصة رائعة للشعور انني احترمه و انه متفوق في شيئاً ما عليَّ مما سيجعله يقترب مني اكثر ويزول التوجس و العدائية بيننا.. مثلا انا زوجة اعاني من خشونة زوجي مع اولاده و حين شاركته مشاهدة المباريات لاحظت انتقاده لخشونة هذا اللاعب و فظاظة ذاك الفريق لذا امدح فيه التزامه باللياقة و السلاسة في اللعب و هذا سيفتح مستقبلاً فرصة لأخبره ان عليه ان يعامل اولاده بسلاسة فهذا هو الصح و ستكون نتائجه افضل. يعني مع وجود المساحة المشتركة تكون هناك نقاشات لطيفة هادئة مرحة و منها ستتوطد العلاقة وسأفهم ما يمكنني البدء به مع الطرف الأخر. في الأخير لماذا تأخرت هذه المقالة لبعد المونديال؟ كان لابد من تطبيقها أولاً ومراراً للتأكد من فعاليتها قبل نشرها ولقد كان. * خبيرة تنمية بشرية