خرج اليمنيون في 2011م بثورة شعبية ضمت كل فئات وتيارات الشعب، كان الشعار الأبرز والهدف المنشود والكلمة التي جمعت تشكيلات وتيارات الثورة هي “الدولة المدنية”، هتف الجميع بها إسلاميون وغير إسلاميين, اختلفوا في بعض مفرداتها، لكن ذلك الشعار ظل يجمعهم، تحدثوا عن تفاصيل مفرداتها ظنا أن ركائزها وأركانها صارت راسخة، ولا شيء يهدد تلك الأركان فوعي الثوار كفيل بحمايتها، مرت أربع سنوات من عمر الثورة، وإذا الأيام تتبدل والمواقف تتغير, وإذا بالثوار يرون أركان حلمهم في الدولة المدنية بدأت تهتز, أيعقل أن تتصدر للواجهة نظرية “الحق الإلهي” في الحكم والتي تناقض أهم أسس الدولة المدنية من الديمقراطية والمواطنة المتساوية؟ أيعقل أن تعود العنصرية من جديد بعد أن لفظتها شعوب العالم كله؟ لقد طعنت الثورة من خاصرتها، طعنت من فصيل لطالما ادعى أنه كان مشاركا فيها، رغم أن أفعاله كانت تقول غير ذلك، ولكن سعة صدر مكونات الثورة كلها قبلت ذلك الفصيل واعتبرته جزءاً منها, رغم تكرار طعناته, إلى أن تمكن أكثر ثم بدأ يقضم الدولة من أطرافها بجماعة مسلحة متمردة, تعلن مطالب واهية، لتسقط محافظة بعد أخرى, وأخيراً جاءوا إلى صنعاء وصار الخوف أن تطعن الثورة الأم, ثورة سبتمبر!! فالدلائل والقرائن والأدلة تقول أن تلك الجماعة لم ولن تنسى حلمها في دولة إمامية تحصر الحكم في البطنين, وتخرج منها كل لا يمت لتلك السلالة، لقد انتفض أجدادنا في ثورة سبتمبر ليزيحوا ركام ألف عام من الجهل والتخلف والقهر والمرض والعزلة عن العالم القريب والبعيد، لقد كنا كما قال الكاتب المصري أنيس منصور أثناء زيارته لليمن بعد الثورة “كنت أظن اليمن متأخرة مائة عام عن مصر, فوجدتها تعيش ما قبل التاريخ”، إلا أنني ومع هذا التخوف من تسديد السهام إلى ثورتي سبتمبر وفبراير لا أنكر ما أحدثته الثورتان من تغيير اجتماعي وثقافي في بنية المجتمع اليمني. كما أني على ثقة بأن ذلك التغيير سيؤتي أكله ولو بعد حين في تحقيق حلم الدولة المدنية الحديثة، وما علينا إلا مزيدا من ترسيخ مفاهيم المدنية والديمقراطية وتثبت ركائز ودعائم الدولة المدنية التي هي الخيار الأوحد للتعايش بين كل اليمنيين بمختلف مذاهبهم وتياراتهم، فماهي تلك الركائز والمقومات التي تستند له الدولة المدنية؟ الدولة المدنية مفهوم مركب من مفهومين: هما “الدولة” و”المدنية”, والدولة كمصطلح سياسي تعرف بأنها “مجموعة من الأفراد (الشعب)، يعيشون على إقليم محدد (الأرض)، ويخضعون لسلطة سياسية حاكمة (الحكومة)، وتتمتع بالاعتراف الدولي كشرط للتمتع بالصفة الدولية”، أما مفهوم المدنية فهو من الناحية اللغوية ينسب إلى “المدينة” وتدل على نمط الحياة في المدينة، معبرة عن العناصر الظاهرة الفعالة المحركة من بين عناصر الحضارة المدينة، ولمزيد من فهم دلالة هذه الكلمة دعونا نقف على ما يقابلها من كلمات، إذ تستعمل في الساحة الثقافية اليوم في مقابل ثلاث كلمات هي: 1 مقابل البداوة: وهنا تعرّف الدولة المدنية بأنها الدولة المتحضرة التي تنتشر فيها مظاهر الحياة العمرانية والثقافية في مقابل الدول المتخلفة حضارياً. 2 مقابل العسكرية: وهنا تعرّف الدولة المدنية بأنها الدولة التي يتولى الحكم فيها حاكم مدني، بنظم دستورية لتولي الحكم، وليس عن طريق الانقلابات العسكرية والاستيلاء على الحكم بقوة السلاح. 3 مقابل الدينية: ولكن هنا ليس لمصطلح الدولة المدنية كمقابل للدولة الدينية مفهوم واحد، بل تتعدد مفاهيمه باختلاف مستعمليه, وباستخدام نوع الدولة الدينية التي استخدم المصطلح في مقابلها. و كان هذا المقابل الأخير للدولة المدنية هو المنتشر في الفكر الغربي، بسبب ما عانته أوروبا من السلطة الدينية، التي تدعي أن مصدرها “الله” وبالتالي فإن أول ما رسخوه هو أن الدولة المطلوبة هي دولة مصدرها “الشعب” ثم تولدت عن هذا المفهوم مفاهيم وآليات إجرائية وإدارية وفكرية وسياسية، مثل: المواطنة المتساوية، والديمقراطية كصورة تطبيقية من صور الحرية والمساواة، وكذلك دولة المؤسسات واستقلالية القضاء، ومنظمات المجتمع المدني، والتعددية، والقبول بالآخر، والتداول السلمي للسلطة، وحرية الصحافة، وتبعية الجيش للدستور، والانتخابات. أما مفهوم فصل الدين عن الدولة والذي ارتبط بالدولة المدنية فإن كثيراً من المحللين الذين عكفوا على تحليل الحدود الفاصلة بين الإطارين، الدين والدولة، وجدوا أن فكرة فصل الدين عن الدولة هي اختيار غير دقيق، حيث أنه من المستحيل فصل الدين عن الدولة لاعتبارات كثيرة، منها أن أسس الدين وقيمه في كثير من البلدان هي التي يهتدي بها السياسي والقاضي حين اتخاذ قراراتهم، وأن أغلب القوانين والأعراف الاجتماعية لها أصول دينية، لذا لجأ البعض إلى تغيير لفظ الدولة بالسلطة, فنادى بفصل الدين عن السلطة، وحتى هذا العبارة ذاتها تحتاج لتمحيص أكثر لنفس الأسباب السابقة، ففي حين كان لفظ السلطة أدق من لفظ الدولة، باعتبار الدولة كما في تعريفها السابق أشمل من السلطة، وبقي تحرير لفظ الدين بشكل أدق، إذ كما هو معلوم في الدين فإن فيه شقين: شق يختص بعلاقة الفرد مع الله، وشق يختص بعلاقة الفرد مع الكون والناس. ولا يمكن في الشق الأول فصلها عن السلطة لأنها مجموعة أفكار يؤمن بها الفرد وشعائر يمارسها لا تناقض السلطة في شيء، إلا إن وجدت أفكار تناقض مبادئ الحرية فيجب الوقوف ضدها، أما الشق المتعلق بالعلاقة مع الناس فلا يحق لمذهب أو طائفة إلزام ما تؤمن بها على الآخر إذا لم يقتنع بها، وعلى من يريد أن يحول تلك الأفكار إلى قوانين أن يقوم بإقناع الناس بها، فإذا آمن الناس بها جميعا، فلا بد من احترام ما يؤمنون بها, لأن هذا هو صلب الديمقراطية، فإن آمن بها الأغلبية أو الأكثرية، فعليها احترام الأقلية فيما تؤمن به وسن قوانين لتحميهم، وعلى الأقلية احترام الأكثرية باعتبار ذلك برنامجاً اختاره الأكثرية من الشعب.