في عالم المكفوفين في هذا البلد زوايا غامضة وسوداء لا يلمسها إلا هم أو من اقترب من أوجاعهم ، ولأنني زاملت أحدهم في دراستي الجامعية فسأدعي ذلك الشرف ! .. ففي الأسطر التالية تتجسد قصة نجاح ممزوجة بالمعانات لنموذج فريد من إخواننا وزملائنا المكفوفين ممن عوضهم المولى عز وجل بمهارات معرفية وحسية فائقة .. هو مختار سيف الشرعبي المتخرج من كلية الإعلام بجامعة صنعاء ، من اكتشفنا عبره الكثير من زوايا الإبداع والتميز المتفجر من مناخ أحاط به وأقرانه - وما يزال – مما لا يسر عدواً لا حبيباً عن فساد المعنيين برعاية الطلبة المعاقين عامة والمكفوفين خاصة !. هبة إلهية تخيل معي عزيزي القارئ أن الحياة قد حكمت عليك في كل يوم أن تمشي راجلاً على قدميك لمسافة خمسة كيلو مترات أو أقل, في شوارع العاصمة أو في عدن أو غيرهما, من البيت إلى العمل أو إلى الجامعة أو إلى أي مكان آخر - تقضي فيه حاجتك - هل ستستطيع المشي؟ ستقول لي نعم بكل تأكيد! وربما ستضيف أفعلها كل يوم, وما الصعوبة في الأمر طالما لستُ مريضاً أو مقعداً؟! لكن ماذا لو كنت كفيفاً وأنت بكامل قواك العقلية والحركية, هل ستقدر على ذلك ؟ لا شك أنك الآن تتخيل الموقف, حسناً سأجيب بالنيابة عنك: (لن تستطيع) حتى ولو تخيلت الأمر مئة مرة وكذلك أنا؟!. والسؤال هنا هل يفعلها الكفيفون؟ وكيف ذلك؟!. دون مرشد “مختار سيف الشرعبي” لأنه زميل لي في كلية الإعلام, حبذت أن أصنع من مناخه التعليمي قصة تستحق أن يتعلم منها معنى الإرادة والتحدي, فلطالما أعجبت به كثيراً, كونه ذكياً وفطناً يقطع الكيلو مترات يومياً مهرولاً من سكن سنان أبو لحوم في مذبح بأمانة العاصمة, وحتى أقصى جامعة صنعاء حيث تقبع كلية الإعلام, يسير دون مرشد أو دليل! بل إنه جعل من نفسه مساعداً ومرشداً لزملائه الكفيفين من السكن إلى كلياتهم, هذا بالإضافة إلى أنه ينجز بعض الأعمال بنفسه خارج الجامعة, ويذهب للمقيل عند أصدقائه في ذهبان وهائل وأحياء أخرى, بل ويبلغ به الأمر أحياناً إلى قطع شارع الستين لوحده, ما جعلني وممن يعرفونه أن نشك بأنه مبصر, إذ لم يسبق أن رأينا كفيفاً مثله... لكننا سرعان ما نلبث متفكرين بقدرة المولى تجلى الخالق في إلهامه, وحيال تلك المقدرة الفريدة لزميلنا الكفيف أصبحنا نعامله أثناء سيرنا معه كأنه مبصر كأي واحد منا. قهر الطريق يسعى مختار كل يوم لخوض مغامرة جديدة, بالتعرف إلى شوارع جديدة في العاصمة, فبمجرد أن يمشي منها المرة الأولى, لا يخطئ الطريق في المرة المقبلة, لكنه يتعرض في المرة الأولى - حد وصفه لي - في طلوع الأرصفة والسقوط أرضاً, والاصطدام بالأشجار وبأعمدة الإنارة التي يصفها (أولاد عم). يعترف مختار : يرتج رأسي تارة ويجرح تارات أخرى ومع ذلك أعالج نفسي بنفسي وأواصل طريقي, فلا يوجد أحد أفضل من الثاني, وأنا أعتبر نفسي قادراً ولا أخاف من المجهول ومؤمن بما كتبه الله لي, وصحيح أني لا أرى لكني معتاد على المشي والحركة بشكل طبيعي. برغم أن الله قد أخذ بصر “مختار”, لكن المولى أكرمه بذاكرة قوية وحاستي لمس وسمع قويتين, فبمجرد لمس وجهك للوهلة الأولى وسماع صوتك, لن تستطيع مغالطته في المرة الثانية مهما مثلت عليه, وسبحان الله الذي إذا أخذ شيئاً على عبده عوضه بغيره, إذا أعطى أغنى. تفوق أنشطة وخيبة تكريم قبل عام اشترك “مختار” في مسابقة الجري التي نظمتها الأولمبياد العالمية للأنشطة الرياضية للمكفوفين في اليمن, والتي أقيمت في حديقة الثورة بصنعاء, جرى فيها مختار مع أفضل خمسة متسابقين كفيفين, وفاز بالمركز الأول, كرم على إثر ذلك بجائزة وقدرها “ساعة حائط عادية” !!!! خيبت ظن مختار فكانت ردة قوله في نفسه: إيش أسوي بها !. أما صاحب المركز الثاني فهو الآخر, نال ثلاجة شاي شخصية, وهناك العديد من الأنشطة الرياضية الأخرى, والفعاليات الثقافية الخاصة بالمكفوفين , أبى “مختار” إلا أن يعتلي صدارة فائزيها بامتياز دوماً وأبداً. شكرًا لسنان ولكن !! كون “مختار” ينحدر من محافظة تعز وعائلة تقطن فيها, لذا فهو يسكن أثناء دراسته في سكن سنان أبو لحوم الخيري برفقة 36 من الطلبة الكفيفين أقرانه, ويدفع 2500 ريال سنوياً فقط كتأمين, ورغم أن “مختار” يمتنُ للسكن الخيري لعدم تقصيره معهم في المأكل والمشرب فلديه مطبخ خاص بالمكفوفين, إلا أنه وأقرانه يعانون من غسيل ملابسهم بأيديهم التي لا تميز فرك البقع المتسخة في الملابس !! كما أن مختار يأمل أن يقام في السكن أنشطة رياضية أو ثقافية للكفيفين, من شأنها - كما يأمل مختار - تنمي الموهبة والمهارات الشخصية, وتزيد من الإدراك والحس لديهم- ككرة القدم والجري! فالعقل السليم في الجسم السليم”. معاناة شهرية صحيح أن “مختار” يرى الحياة بقلبه, لكنه أراد أن يكون لسان حال إخوته الكفيفين ليعبر عن معاناتهم الجامعية بالقول: “نحن نسعى لأن نتعلم في الجامعات والمعاهد أكثر من غيرنا, لأننا لن نستطع الاتكال على الأعمال التي تتطلب جهداً جسدياً, ولذلك فإننا نحتاج إلى دعم ورعاية، وناشد مختار - عبر هذه الصحيفة - المعنيين في مكتب رعاية الشباب والمكفوفين بجامعة صنعاء, أن تزيد من دعمها للمكفوفين, وأن تصرفها في الوقت المحدد كون الدعم ليس بمحلي, موضحاً: أن المقرر لهم حالياً هو 6 آلاف ريال كل 3 أشهر, لكنهم لا يستلمونها إلا كل 4 أشهر, بعد جهد وعناء وجري وأحياناً بعد مظاهرات اعتصامات, وتذهب كلها مواصلات, وناشدهم قائلاً: “يجب أن تقدروا ظروفنا, صحيح أننا معفيون من الرسوم الجامعية, لكن نحتاج إلى كتب وملازم ومواصلات ولباس, ولا يمتلك معظمنا ما يعينه على الاستمرار في التعليم, سوى هذا المبلغ البسيط وضعفه مبلغ الضمان الاجتماعي وصندوق المعاقين المقدر ب 6 آلاف ريال كل 4 أشهر, أي ما يعادلان 3 آلاف ريال شهرياً”. تقصير المركز الثقافي للمكفوفين يحفظ “مختار” كتبه وملازمه من خلال تسجيلها على أشرطة, في المكتبة السمعية بالجامعة القديمة, ومن ثم يسمعها ويحفظها عن طريق المسجل أو الحاسوب, وهنا - أشاد -مختار بالدور الذي تقدمه المكتبة السمعية من دون تقصير في أداء واجبها تجاههم, لكنه - أشار - إلى أنها تتعرض لضغط كبير كونه لا يوجد فيها سوى 3 موظفين مقابل أكثر من 50 كفيفاً, لذلك فهم يقتصرون أحياناً على خدمة طلاب كلية الآداب فقط, وفي المقابل -انتقد - مختار المركز الثقافي للمكفوفين بالجامعة الجديدة, كونه لا يعطيهم الملازم مسجلة, إلا وقد انتهى الفصل الدراسي,- وطالب - “مختار” المركز أن يقوم بواجبه ناحيتهم, وأن يزيد من عدد الدورات التدريبية والأنشطة الثقافية للمكفوفين.. وعن دور كلية الإعلام، فلم يقصر معه يوماً طالباً أو أكاديمياً, خاصة الطالبات والمعيدات اللواتي يقمن بتسجيل الملازم, وتقديم كل ما يحتاجه أكاديمياً, لكن “مختار”- وصف - أن حالة نظرائه في الكليات الأخرى ليست بميسرة, - مطالباً – الدكاترة أن ينزلوا الملازم المقررة في وقت مبكر من الترم لا في نهايته حتى يتسنى لزملائه مذاكرتها وإيجاد من يقوم بتسجيلها, كون ذلك يكلفهم الكثير من الوقت والتعب والعناء. أمنية مختار الشرعبي فقد الرؤية بعد الشهر الثالث من ولادته, نتيجة لتلف أعصاب عينيه, ها هو اليوم بعد أربع سنوات مضت وهو يتعلم في كلية الإعلام؛ يتخرج أخيراً من قسم العلاقات العامة دون أن يبقي مادة في أي ترم, وبتحصيل علمي- جيد جداً -, أحب “مختار” الإعلام منذ أن كان يشارك في الإذاعة المدرسية, فسعى لتحقيق حلمه, وها هو اليوم يسأل الله بعد أن أعطاه كل ما تمناه؛ أن يوفقه في الحصول على وظيفة حكومية في مجال تخصصه (العلاقات العامة, الدعاية والإعلان, التنسيق والتسويق),تؤمن له حياة كريمة مع عائلته (أبويه وزوجته وولديه - عمر ومرام ), وهذه هي - أمنيته الوحيدة - كما أخبرني - ومختار من خلال معرفتي الشخصية به, يستطيع أن يكون - لا مجرد موظف علاقات عامة فحسب - بل مدير بامتياز في وزارة على الأقل ! ناهيكم عن امتلاكه مهارات أخرى كاستخدام الحاسوب ومواقع التواصل الاجتماعي عن طريق برنامج ناطق, بالإضافة إلى الصفات الفطرية التي يمتلكها, كروح الدعابة, وتلك الابتسامة التي لا تفارق وجنتيه, نزاهته وطيبةِ قلبه و ما إلى ذلك.. وفي هذا الشأن قال مختار : إن لديهم 5 درجات وظيفية في الخدمة المدنية, لكن ثمة من يتاجر بها لناس غير مستحقين, وذلك بتزوير تقارير مزيفة لأصحاء على أنهم معاقون, - مطالباً - الحكومة أن ترفع هذه الدرجات إلى 100 %, وبأن لا تعطيها؛ إلا لمن يستحقها. رسالتي للمجتمع “مختار” الذي لا يرى سوى البياض, فرض نفسه قدوة في الخلق والسلوك عند كل من يعرفه, وشاباً يُحتذى به كمثالٍ للكفاح, وقصة نجاحٍ وتميزٍ قل ما نجدها, اختتم حديثه ل«الجمهورية» موصياً: أطلب من كل المكفوفين أن يواصلوا مسيرتهم لتحقيق هدفهم, ولا يعجزوا أمام أي صعوبات مهما كانت, وكلنا تحدينا ومررنا بمراحل صعبة, لكن الإرادة كانت فوق كل شيء, كما أرجو كل الرجاء من المجتمع, أن ينظروا لنا كما ينظرون للمبصرين, وأن لا يظنوا أننا مكفوفون وعاجزون غير قادرين وإنما العكس, ورسالتي إلى كل من يهمه الأمر, - عبر كلِ سطرٍ ومحورٍ من هذه القصة -أن يتخيل فقط.. ماذا سيفعل من أجل ابنه, لو كان كفيفاً مثلي؟!.