نبحر في ضمير أنثى، نطوف في روحها، نحلّق في فضائها، نغرق في ضياعها وهي تتخبط في دروب التيه فلا تجد للنسيان سبيلاً. أحلامها عالم ثابت في داخل روحها.. هي صرخة أنثى تطلقها الروائية المبدعة (ولام العطار) في روايتها ( انتظرني...ريثما أجدني ) فها هي سكينة داود بطلة الرواية التي نرحل معها في أتون الرواية في تناول هو مزيج من الإرهاصات الداخلية والدخول في أعماق الروح ومن قاع المشاعر ينطلق بنا السرد منذ الخطوة الأولى (لأننا نبحث عن النقاء الذي أضاعه أبونا آدم ما أن هبط إلى الأرض). نبحث عن يد لنا، عن هدوء النفس وطمأنينتها لذا ترانا نأخذ كل شيء حتى موتنا إلى البياض، علاقة حب شيقة تنسج خيوطها بين البطلة ونوفل ناجي فيكون هو عالم البطلة الذي ترسخ في أعماقها إلا أنها تتفاجأ بأن الحياة تسير في تيار آخر يعاكس ما ترسمه في مخيلتها خطة أحلامها وطموحاتها وأمانيها وعالمها الممهد لاستقبال هذا الحبيب «اتسعت رقعة الأفق وامتلأت الغرفة بعتمة شديدة كان جرس الباب يرن بشدة, وكانت تهيم في ضيق أنوثتها الغاطسة في بحار من الممرات القاسية, تعثرت خطواتها وتأملت المرأة فلم تجد غير صمت عار, ووجه مكروب تملأه نواحات حزينة, استندت إلى نفسها, وتلفتت بحيرة, كانت تشم رائحة الجسد المعفر برائحة التراب والبارود, وتستمع إليه, وتركض خلف أحلامه التي أججها حضوره المفاجئ, انفتح باب الغرفة فزحف الأب جاراً وراءه ركاماً من المتاعب». هنا تضعنا الروائية أمام تساؤل غريب وطرح غريب فبطلة الرواية سكينة داود تكتشف أنها مسلوبة الإرادة ولا تملك القرار ولا يحق لها بل لا يحق لأي امرأة في البلد أن تخط طريقها كما تريد أو ترسم عالم لحياتها أو تسير في درب تريده، فهي مسلوبة الإرادة وهذا حبيبها الذي تستعد لاستقباله كزوج أمام مهام كبيرة. مهام وطنية فرضت عليه. فهو هناك في بركان الغضب وسط الحروب والقتال. هل تستطيع الانتظار؟ وهل اذا انتظرت سوف يأتيها؟ وهل تنتهي حكايتها بالزواج منه؟ هذا أمر مستحيل، فالرجال مشغولون في الحروب والمرأة يقتلها الانتظار ويفتت لياليها الصبر, هل يأتي كما حلمت به فارساً يحملها على صهوة جواده وينطلق لعالمها التي تحب؟, لم يحدث هذا, لأنها انذهلت أمام هذه الحقيقة. إن ما تريده حلم بعيد المنال. إلا أن هذا الحلم صار حقيقة راسخة في أعماق نفسها وصارت لا ترى سوى حبيبها, والحقيقة تذكر أن بطلة الرواية استطاعت ببراعة الروائية ولام العطار أن تجعل الحقيقة خيالاً والخيال حقيقة، فبعد أن تعرف أن حبيبها مات وسط الحروب وضاعت الآمال بقيت تعيش هذا العالم في كل نواحي حياتها وحتى وهي ممددة على سريرها تحسه يحتضنها وهو معفر بتراب المعارك والبارود ولأنها عاشت خيالها واقعاً وهي تدين كل من كان سبباً في ضياع حبها وموت فارسها وهنا يعيش المتلقي مع سكينة يواسيها ويتألم معها لأنها صارت مجرد كيان يتنفس وترى الأشياء مضببة واهية خافتة حزينة، وفجأة يقرر الأب أن تتزوج، تستجيب لهذه الرغبة مرغمة, إن الروائية تضع أمامنا ظلماً آخر للمرأة العراقية التي تخسر أحلامها وأمانيها وتضيع في بحر النسيان دون أن ينتبه لها أحد, قرر ذلك بعد أن تأكد من موت نوفل ناجي عندما وجد اليافطة السوداء معلقة على جدار البيت, إلا أن هذا الزواج مرتبط برحلة طويلة. وكانت مهمة والد العريس هي إيصال الزوجة إلى ابنها في بلاد الغربة يرافقها والدها الذي كان يشعر في كل خوالجها (نهض والد العريس واتجهت سكينة دون أن تتفوه بشيء باتجاه المغاسل كانت تشعر ثمة امتلاء ما يسري بين أعماقها, أغمضت عينيها محاولة الإمساك ببقايا الملكة التي كانت قبل هنيهة, لكن سكينة طالعتها من خلال المرآة مبتسمة وهي تستعد لرحلة مجهولة لا تعرف كنهها شيئاً, انغمست ثانية في اشتغال أحلامها فأبصرت الشاعر الجنوبي الواقف عند الشط يشير إليها, خطت إلى قلب المرآة لكنها تراجعت خائفة وبهلع هربت مسوية ثيابها لرحلة قد تدوم إلى الأبد) رحلة رافقها عجوزان يريدان إنجاز مهمتهما بنجاح وما هذه الرحلة إلا دخول أكثر لعالم سكينة وبعد عناء كبير وسرد شيق وممتع أبدعت فيه الروائية في إيصال ثيمة الرواية بكل وضوح إلى المتلقي (صفنت أعماقها, وسكتت الأصوات الآتية من الطرف الآخر, كان صوت والدها يبدو غريباً محاصراً بمعاني الفرار, أو تراه هو الآخر جاء إلى هنا باحثاً عن خلاص له, خلاص يجعله يعاود الانتماء إلى مباهج الدنيا. بعد أن فقد الارتباط واستتر خلف سواتر الموت والترقب, ابتسمت للمرآة الواقفة قبالتها وودت لو أنها دمرت كل مرايا الأرض لكي لا ترى إلى هذا الوجه العابث بأتربة الهم, والمتواري وراء أكوام من الكلمات التي غدت لا مبرر لها, كلمات كانت تطمح في أن تجعلها حدائق من القصائد والحكايات والأقوال, كانت تروم دخول مدن الخلود لكنها وجدت نفسها تركض دونما هوادة خلف سراب لم يوصلها إلى غير الفناء) إنها رحلة فناء وتهميش وسحق لواقع المرأة التي سُلبت إرادتها بسبب فوضى الحياة تتخلل هذه الرحلة المضنية الشيقة الممتعة الخالية من أي ملل، لأنها غلفت أجواء سردها بهذه الشاعرية الأنثوية المحببة والتي تشبه صوت استغاثة لكل العالم وتواجه مشكلة كبيرة وهي أن البلد الآخر رفض إعطاء تأشيرة دخول لهم مما اضطروا إلى أن يدخلوا في طرق غير مشروعة في السفينة وسط المحركات العملاقة والشعور بدوار البحر والتقيؤ، كنا قبل أن ندخل لقراءة الرواية كانت هناك مقدمة للشاعر (لانكستن هيوز). (لقد أرعبوني وهشموني, آمالي عصفت بها الرياح, الصقيع جمدني, الشمس شوتني, حاولوا أن يجعلوني أتوقف عن الضحك, أتوقف عن الحب, أتوقف عن العيش, ولكنني لم أهتم, إنني ما أزال هنا) وبعد أن يصلوا حيث توفي والدها في هذه الرحلة ولم يبق معها إلا والد زوجها (دق الوالد الباب وضغط على زر الجرس بارتباك وثانية ضغط على الجرس وبمرارة دق الباب ولحظة أراد الضغط على زر الجرس, انفتح الباب كانت العيون التي تبصرهما مشربة بالانهزام والتعب والخوف, عيون اتعبها الجري وراء أحلام غدت مقيدة بكرسي متنقل, أبصرهما الرجل المكتف إلى الكرسي, وبهدير صاخب, ارتمى الوالد إليه, إلى عمق الحزن, ظلت سكينة تنظر إليهما حائرة ما تقول, فجأة اكتشفت أن الذي يجلس أمامها مدمراً سابحاً في أعماق متاعبه, لم يكن سوى الفتى الذي أحبّت وانتظرت وقاومت طوال السنوات لتجده ولكن.. كيف؟. وما عساها تقول؟ لم تنبس ببنت شفة) وهكذا تكون الروائية ولام العطار قد أجادت في طرح وجه جديد للسرد الروائي في الرواية العراقية وأثبتت قدرتها وتميزها عن الآخرين وسط هذا الكم النوعي الباهر من الروايات..