شيّعت المملكة العربية السعودية جثمان خادم الحرمين الشريفين الراحل عبدالله بن عبد العزيز آل سعود أمس الجمعة بعد الصلاة عليه في المسجد الكبير بالرياض بمشاركة عربية وإسلامية ودولية. وأدى الآلاف صلاة الميت داخل وخارج مسجد الإمام تركي بن عبد الله بالرياض، يتقدمهم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود وكبار الشخصيات السعودية والعديد من رؤساء الدول العربية والإسلامية. وبعد أداء صلاة الميت شيع الآلاف جثمان الملك عبدالله الى مثواه الأخير في مقبرة العود في الرياض. وتقدم المشعون الملك سلمان وولي عهده الأمير مقرن بن عبدالعزيز وولي ولي العهد الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز، اضافة الى أمير دولة الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح وأمير مملكة البحرين حمد بن عيسى آل خليفة . كما شارك في التشييع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وأمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني والرئيس السوداني عمر حسن أحمد البشير ورؤساء وزراء مصر المهندس إبراهيم محلب واثيوبيا هايلي ماريام ديسالين وغيرهم. وفقدت الأمة العربية والإسلامية فجر أمس الجمعة أحد أبرز قادتها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود بعد سنوات حافلة من العطاء والمثابرة وخدمة الأمة والانسانية جمعاء، وخدمة الحرمين الشريفين وزوارهما. ونعى العديد من رؤساء وملوك الدول في مختلف أنحاء العالم الراحل الملك عبدالله بن عبدالعزيز. واضطر عدد من قادة الدول العربية المشاركين في «منتدى دافوس» الاقتصادي، إلى مغادرة سويسرا والتوجه إلى المملكة العربية السعودية، للمشاركة في تشييع جثمان الملك الراحل إلى مثواه الأخير، في مراسم جرت بعد صلاة عصر أمس الجمعة. وكان الملك عبدالله شخصية الألفية الثالثة في كافة المجالات الانسانية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومثل وجوده في العشر سنوات الماضية الركيزة الأساسية التي تستند عليها الأمة الاسلامية في محور حركتها وتفاعلها مع القضايا العالمية التي تهم البشرية. السيرة الذاتية وولد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز في مدينة الرياض سنة 1349 ه الموافق 1931م، في عصر كل ما فيه يفرض على الإنسان الصبر والاحتمال، وكان من نتيجة ذلك، أن كان للانضباط الديني والنفسي والاخلاقي دوره في تكوين شخصيته رحمه الله حضوراً وتأثيراً وتفاعلاً، كون في مجموعه رؤية ثاقبة تفرض قناعتها بالمنطق والعقل سلوكاً وتعاملاً قولاً وفعلاً، يتعامل بها في حياته. نهل الملك عبدالله بن عبدالعزيز من مدرسة والده ومعلمه الأول الملك عبدالعزيز وتجاربه في مجالات الحُكم والسياسة والادارة والقيادة إلى جانب ملازمته لكبار العلماء والمفكرين الذين عملوا على تنمية قدراته بالتوجيه والتعليم أيام صغره، لذلك فقد حرص دائماً على التقاء العلماء والمفكرين وأهل الحل والعقد، سواء من داخل المملكة أو خارجها. عاش الملك عبدالله بن عبدالعزيز في كنف والده الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود فعلقت في ذهنه أحداث تلك المرحلة التاريخية وهى مرحلة كانت مشحونة بالصراعات القبلية والفكرية في شبه الجزيرة العربية إلى جانب التطورات السياسية في الوطن العربي وفى العالم أجمع إبان الحربين العالميتين. في سنة 1383ه الموافق 1962م تسلم الأمير عبدالله بن عبدالعزيز رئاسة الحرس الوطني الذى كان يضم في مطلع تكوينه آنذاك أبناء الرجال الذين عملوا وأسهموا مع قائدهم الملك عبدالعزيز في توحيد وبناء المملكة العربية السعودية، وكان لتحمل مسؤولية هذه المؤسسة العسكرية دورها الفعال في تطويرها وتحديثها. وفي سنة 1395ه الموافق 1975م أصبح نائباً ثانياً لرئيس مجلس الوزراء ورئيساً للحرس الوطني، وفي يوم الأحد 21 / 8 / 1402ه الموافق 13/يونيو1982م بُويع ولياً للعهد من قبل أفراد الأسرة المالكة والعلماء، ووجهاء البلاد وعامة الشعب السعودي، وفي مساء ذات اليوم صدر أمر ملكي بتعيينه نائباً لرئيس مجلس الوزراء ورئيساً للحرس الوطني، بالإضافة الى ولاية العهد. وقد أولى الملك عبدالله بن عبدالعزيز العلم والثقافة في المملكة العربية السعودية اهتماماً واضحاً فكان من نتاج ذلك أن أسس مكتبة الملك عبدالعزيز العامة في الرياض كما أسس شقيقتها الأخرى في الدار البيضاء في المملكة المغربية، كما أنشأ في 2 / 7 / 1405ه المهرجان الوطني للتراث والثقافة الذى يقام سنويا في الجنادرية ويستقطب العلماء والأدباء والشعراء والمفكرين من العالم. شهدت المملكة العربية السعودية منذ مبايعة الملك عبد الله بن عبدالعزيز في 26 / 6 / 1426ه العديد من المنجزات التنموية العملاقة على امتداد مساحتها الشاسعة في مختلف القطاعات الاقتصادية والتعليمية والصحية والاجتماعية والنقل والمواصلات والصناعة والكهرباء والمياه والزراعة، تشكل في مجملها إنجازات جليلة تميزت بالشمولية والتكامل في بناء الوطن وتنميته مما يضعها في رقم جديد في خارطة دول العالم المتقدمة فقد تجاوزت في مجال التنمية السقف المعتمدة لإنجاز العديد من الأهداف التنموية التي حددها (إعلان الألفية) للأمم المتحدة عام (2000) كما أنها على طريق تحقيق عدد آخر منها قبل المواعيد المقترحة. وتحقق لشعب المملكة العربية السعودية في عهد الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود العديد من الانجازات المهمة منها تضاعف أعداد الجامعات من ثماني جامعات إلى أكثر من 20 جامعة وافتتاح الكليات والمعاهد التقنية والصحية وكليات تعليم البنات، وإنشاء جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية والعديد من المدن الاقتصادية منها مدينة الملك عبدالله الاقتصادية في “رابغ” ومدينة الأمير عبدالعزيز بن مساعد الاقتصادية في “حائل” ومدينة “جازان” الاقتصادية ومدينة المعرفة الاقتصادية بالمدينة المنورة إلى جانب مركز الملك عبدالله المالي بمدينة الرياض. وخطت مسيرة التعليم في عهد الملك عبدالله رحمه الله خطوات متسارعة إلى الأمام، حيث وجهت المملكة نسبة كبيرة من عائداتها لتطوير الخدمات ومنها تطوير قطاع التعليم، كما تم إنشاء العديد من المعاهد والمراكز في بعض الجامعات لأبحاث التقنيات متناهية الصغر (النانو)، ولم تقف معطيات الملك عبدالله عند ما تم تحقيقه من منجزات تعليمية شاملة فقد واصل مسيرة التنمية والتخطيط لها في عمل دائب التمس من خلاله كل ما يوفر المزيد من الخير والازدهار لهذا البلد وأبنائه. وقد مثلت رعاية الفقيد الراحل لمؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله للموهبة والإبداع ورئاسته لمجلس أمنائها مرحلة جديدة من مراحل التعليم في المملكة واستجابة طبيعية للتحولات النوعية الماثلة في مجال تحديث البرامج التربوية والتعليمية. وفي نفس الإطار أقر مجلس الوزراء في جلسته التي عقدها في 24 محرم 1428ه مشروع الملك عبدالله بن عبدالعزيز لتطوير التعليم العام الذي يعد نقله نوعية في مسيرة التعليم في المملكة العربية السعودية فهو مشروع نوعي يصب في خدمة التعليم وتطوره في المملكة لبناء إنسان متكامل من جميع النواحي الاجتماعية والنفسية. وحرص خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود رحمه الله على استكمال مختلف المشروعات التي تسهل وتيسر على حجاج بيت الله الحرام أداء مناسكهم والقضاء على مشاكل الازدحام حول جسر الجمرات وفي الساحات المحيطة بها بالإضافة إلى ما تضمنته المشروعات من استكمال امتداد الإنفاق والتقاطعات والجسور التي ستؤدي بمشيئة الله إلى تسهيل حركة المرور من وإلى مشعر مني. واتسم عهد الملك عبدالله بن عبدالعزيز رحمه الله بسمات حضارية رائدة جسدت ما اتصف به من صفات متميزة أبرزها تفانيه في خدمة وطنه ومواطنيه وأمته الإسلامية والمجتمع الإنساني بأجمعه في كل شأن وفي كل بقعة داخل الوطن وخارجه، إضافة الى حرصه الدائم على سن الأنظمة وبناء دولة المؤسسات والمعلوماتية في شتى المجالات مع توسع في التطبيقات، ومن هذا المنطلق تم إكمال منظومة تداول الحكم بإصدار نظام هيئة البيعة ولائحته التنفيذية وتكوين هيئة البيعة وجرى تحديث نظام القضاء ونظام ديوان المظالم وتخصيص سبعة مليارات ريال لتطوير السلك القضائي والرقي به. كما تم إنشاء عدد من الهيئات والإدارات الحكومية والجمعيات الأهلية التي تعني بشؤون المواطنين ومصالحهم ومنها (الهيئة الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد) و(الهيئة العامة للإسكان) كما تم إنشاء وحدة رئيسية في وزارة التجارة والصناعة بمستوى وكالة تعنى بشؤون المستهلك. وفي المجال الاقتصادي أثمرت توجيهات الملك عبدالله بن عبدالعزيز «رحمه الله» نحو الإصلاح الاقتصادي الشامل وتكثيف الجهود من أجل تحسين بيئة الأعمال في البلاد وإطلاق برنامج شامل لحل الصعوبات التي تواجه الاستثمارات المحلية والمشتركة والأجنبية بالتعاون بين جميع الجهات الحكومية ذات العلاقة عن حصول المملكة العربية السعودية على جائزة تقديرية من البنك الدولي تقديراً للخطوات المتسارعة التي اتخذتها مؤخراً في مجال الإصلاح الاقتصادي ودخول المملكة ضمن قائمة أفضل عشر دول أجرت إصلاحات اقتصادية انعكست بصورة إيجابية على تصنيفها في تقرير أداء الأعمال الذي يصدره البنك الدولي، وصنفت المملكة أفضل بيئة استثمارية في العالم العربي والشرق الأوسط باحتلالها المركز 23 من أصل 178 دولة. وفي مجال الحوار بين بين أتباع الأديان والثقافات والحضارات ونبذ الصدام بينهما وتقريب وجهات النظر دعا الملك عبدالله بن عبدالعزيز «رحمه الله» في أكثر من مناسبة إلى تعزيز الحوار بين أتباع الأديان والثقافات والحضارات المختلفة وإلى ضرورة تعميق المعرفة بالآخر وبتاريخه وقيمه وتأسيس علاقات على قاعدة الاحترام المتبادل والاعتراف بالتنوع الثقافي والحضاري واستثمار المشترك الانساني لصالح الشعوب. وتتويجاً للجهود التي بذلها الفقيد لتعزيز التواصل والحوار بين الحضارات والثقافات والتوافق في المفاهيم تم إطلاق جائزة عالمية للترجمة باسم (جائزة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز العالمية للترجمة) إيماناً بأن النهضة العلمية والفكرية والحضارية إنما تقوم على حركة الترجمة المتبادلة بين اللغات، كونها ناقلاً أميناً لعلوم وخبرات وتجارب الأمم والشعوب والارتقاء بالوعي الثقافي وترسيخ الروابط العلمية بين المجتمعات الإنسانية. وللتأصيل الشرعي لمفهوم الحوار الاسلامي مع أتباع الاديان والثقافات والحضارات المختلفة في العالم رعى الفقيد رحمه الله في الثلاثين من شهر جمادى الأولى 1429ه حفل افتتاح المؤتمر الاسلامي العالمي للحوار الذي نظمته رابطة العالم الاسلامي بقصر الصفا في مكةالمكرمة، وأوصى المشاركون في المؤتمر بإنشاء مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز الدولي للتواصل بين الحضارات بهدف إشاعة ثقافة الحوار وتدريب وتنمية مهاراته وفق أسس علمية دقيقة وإنشاء جائزة الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمية للحوار الحضاري ومنحها للشخصيات والهيئات العالمية التي تسهم في تطوير الحوار وتحقيق أهدافه. وفي المجال السياسي حافظت المملكة على منهجها الذى انتهجته منذ عهد مؤسسها الراحل الملك عبدالعزيز، طيب الله ثراه القائم على سياسة الاعتدال والاتزان والحكمة وبُعد النظر على الصعد كافة ومنها الصعيد الخارجي، حيث تعمل المملكة على خدمة الإسلام والمسلمين وقضاياهم ونصرتهم ومد يد العون والدعم لهم في ظل نظرة متوازنة مع مقتضيات العصر وظروف المجتمع الدولي وأسس العلاقات الدولية المرعية والمعمول بها بين دول العالم كافة منطلقة من القاعدة الأساس وهي العقيدة الإسلامية الصحيحة. وكانت السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية وما تزال تعبر بصدق ووضوح مقرونين بالشفافية عن نهج ثابت ملتزم تجاه قضايا الأمة العربية وشؤونها ومصالحها المشتركة ومشكلاتها وفي مقدمتها القضية الفلسطينية واستعادة المسجد الاقصى المبارك والعمل من أجل تحقيق المصالح المشتركة مع التمسك بميثاق الجامعة العربية وتثبيت دعائم التضامن العربي على أسس تكفل استمراره لخير الشعوب العربية. وفى هذا الإطار قدم الفقيد الملك عبدالله بن عبدالعزيز عندما كان ولياً للعهد تصوراً للتسوية الشاملة العادلة للقضية الفلسطينية من ثمانية مبادئ عرف باسم (مشروع الأمير عبدالله بن عبدالعزيز) قدم لمؤتمر القمة العربية في بيروت عام 2002م وقد لاقت هذه المقترحات قبولاً عربياً ودولياً وتبنتها تلك القمة وأكدتها القمم العربية اللاحقة خاصة قمة الرياض الأخيرة وأضحت مبادرة سلام عربية. واقترح الفقيد الملك عبدالله بن عبدالعزيز خلال المنتدى الدولي السابع للطاقة الذى عقد في الرياض خلال عام 2000م إنشاء أمانة عامة للمنتدى الدولي للطاقة يكون مقرها مدينة الرياض، وقد قرر المجتمعون في منتدى الطاقة الدولي الثامن المنعقد في أوساكا اليابانية بالإجماع إنشاء هذه الأمانة، ومقرها الرياض وفي 17 / شوال / 1426ه رعى الفقيد افتتاح مبنى الأمانة العامة لمنتدى الطاقة الدولي بالرياض. كما اقترح الفقيد إقامة مركز دولي لمكافحة الإرهاب وذلك خلال المؤتمر الدولي لمكافحة الإرهاب لذي عقد في مدينة الرياض في شهر فبراير 2005 برعاية جلالته رحمه الله، وبمشاركة أكثر من 50 دولة عربية وإسلامية وأجنبية إلى جانب عدد من المنظمات الدولية والاقليمية والعربية. وامتدت مشاركات الفقيد الراحل الخارجية إلى أبعد من ذلك، حيث حرص دائماً على المشاركة وحضور المؤتمرات الدولية والعربية والإقليمية والزيارات الرسمية لمعظم دول العالم ويسهم بفاعلية في وضع الأسس الثابتة القوية لمجتمع دولي يسوده السلام والأمن والاخاء. وجاءت زيارات الفقيد الملك عبدالله بن عبدالعزيز العديدة للدول العربية والاسلامية والصديقة لتشكل رافدا آخر من روافد اتزان السياسة الخارجية للمملكة وحرصها على مسيرة التضامن العربي والسلام والأمن الدوليين.