انطلاقاً من قاعدة عدم وجود الترادف اللغوي في ألفاظ القرآن الكريم؛ بمعنى عدم وجود معنى واحد لألفاظ مختلفة, ومن قاعدة اختلاف المبنى يؤدي بالضرورة إلى اختلاف المعنى, نناقش هذا الموضوع.. الله سبحانه وتعالى يذكر كل لفظة في القرآن الكريم ويريد بها معنى معيّناً, ولا يستخدم التكرار لإيصال معنى واحد, لأن هذا من الحشو والزيادة الدالة على العجز والنقص, وحاشاه سبحانه وتعالى من ذلك، لذلك كل لفظ في القرآن له معنى معيّن, يختلف عن غيره من الألفاظ، والله سبحانه وتعالى دقيق في اختيار الألفاظ القرآنية بمواضعها, وليس بشكل عشوائي.. من هنا نقول أن لفظ «الرسول» غير لفظ «النبي» وكل كلمة من هاتين الكلمتين لها معناها الخاص بها. إن النبي محمداً في القرآن هو شخص محمد بن عبدالله في حياته وشؤونه الخاصة, وعلاقاته بمن حوله, وتصرفاته البشرية الاجتهادية، فالنبي محمد تعرّض للعتاب من ربه عزّ وجلّ حين قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (التحريم:1), {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ، تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال:67)، وعندما استغفر النبي لبعض أقاربه من المشركين, عاتبه ربه فقال: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (التوبة:113)، وعندما جاء إليه رجل ليس من الأشراف في قريش؛ أعرض عنه النبي لأنه كان يستهدف أشراف القوم خاصة, فعتابه ربّه فقال: {عَبَسَ وتولّى} (عبس:1)، وهنا يأمر الله النبي بالتقوى واتباع الوحي والتوكل عليه, وينهاه عن طاعة المشركين, فقال: {أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً، وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً، وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ...} (الأحزاب:1:3)، فهنا جاءت كل هذه الأوامر بوصفه النبي البشري، وعند الحديث عن محمد عليه السلام مع أزواجه يأتي بصفة النبي, قال الله عزّ وجل: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} (الأحزاب:28) وفي علاقته بمن حوله من الناس, يأتي بوصفه بالنبي {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنّ} (الأحزاب:59). فالنبي هو شخص محمد البشري في سلوكياته, وعلاقاته الخاصة والعامة، فمحمد النبي له كلام مع أزواجه وأصحابه, وله تصرفات واجتهادات باعتباره رئيساً للدولة, وقاضياً, ومعلماً, وزوجاً، ومن هذا المنطلق نفهم الحديث المنسوب إلى النبي “عليه الصلاة والسلام” الذي روته أم سلمة هند بنت أبي أمية وأخرجه البخاري {إنكم تختصمون إليّ, ولعل بعضكم ألحن بحُجته من بعض, فمن قضيت له بحق أخيه شيئاً بقوله, فإنما أقطع له قطعة من النار, فلا يأخُذها}، فهنا محمد عليه الصلاة والسلام ينطلق في مهمته كقاضً بصفته نبياً يجتهد وليس رسولاً يوحى إليه. أما محمد «الرسول» فهو محمد حينما ينطق بالقرآن, وحينما يُبلّغ الوحي, وهنا تكون طاعته من طاعة الله {مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}, {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّه} (النساء: 64,80)، وكل آيات القرآن التي أمرت بطاعة محمد وأنها من طاعة الله جاءت في صفته كرسول, ومقرونة بفعل واحد {قلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ، فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} (آل عمران:32)، {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (آل عمران:132).. {َما أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّه...} (النساء:64). {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ، وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} (النساء:80)، فطاعة الرسول هنا هي طاعة الوحي أي الرسالة وليس شخص النبي، فجأ فعل الطاعة واحداً، وهذا يعني أن الطاعة لله هي طاعة الرسالة, وليس شخص محمد, وإلا لكان {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول} فلم يقل الله أبداً في آية من آياته {وأطيعوا النبي} وجاء الخطاب لمحمد في تبليغ الرسالة بوصفه الرسول وليس النبي {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ، وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ...}(المائدة:67)، {مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ، وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} (المائدة:99)، وفي الحديث المروي عن النبي عليه الصلاة والسلام ان هذا التمايز بين مقام الرسول ومقام النبي, هو مهم جداً في معرفة طبيعة الرسول وطبيعة النبي، فمحمد الرسول يجسّد الرسالة, لذلك طاعته تظل مستمرة وإن مات, لأن الرسالة لا تموت، أما محمد النبي, فهو يجسّد تصرفاته البشرية واجتهاداته كرئيس للجماعة في عصره, وقاضٍ يفصل بين الناس في الخصومات, وكمعلّم ومربٍّ لأصحابه. كلام الرسول هو القرآن ذاته، أي كلام الله, وكلام النبي هو ما تكلّم به خارج نطاق الوحي، فمحمد الرسول يجب أن يبلّغ الرسالة كما أوحيت إليه لا يزيد فيها ولا ينقص منها شيئاً {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ} (المائدة:99), والبلاغ هو توصيل الرسالة دون زيادة أو نقصان. الخلاصة: - كلام الرسول هو القرآن فقط, وقد بلّغه دون زيادة أو نقصان, ولا اجتهاد في مقام الرسالة. - كلام النبي هو كل ما نطق به خارج الوحي, كقائد للحروب, وكحاكم للجماعة في عصره, وكمعلّم ومربٍّ لأصحابه, وللنبي الاجتهاد في هذا المقام. - طاعة الرسول مستمرة بعد موته, لأنها طاعة للرسالة - أي الدين - وهذه الطاعة هي من طاعة الله. - طاعة النبي تكون ملزمة فقط لأصحابه في عصره, بحكم أنه قائدهم, وعدم طاعته فيها ريب وشكوك من رسالته بشكل غير مباشر، أما طاعته كنبي بعد موته ليست ملزمة؛ لأن مقام النبوّة هو مقام الاجتهاد والتصرف البشري, واجتهاد عصر قد لا يناسب عصراً آخر. ونسأل الله أن يُلهمنا الرشد والصواب.