ارتفع الوحي, ومات الرسول محمد عليه الصلاة والسلام, وبذلك يكون قد انتهى عهد الرسل, وعهد الوحي، وترك اللّه لنا كتاباً لنهتدي به في طريقنا, وليكون هو المرشد الإلهي الوحيد لنا في هذه الحياة (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِي َأَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) الإسراء:9. لذلك ليس هناك من أحد يدّعي أنه ممثل اللّه في الأرض والناطق باسمه في توجيه العباد سواء كان راهباً أم حِبراً أو إماماً أو شيخاً، الكتاب الذي تركه اللّه لنا, وتكفّل بحفظه من التحريف, فمنع أيادي الناس من التلاعب به, سواء زيادة فيه أم إنقاصاً منه, هو الكتاب الوحيد الذي يجب أن يكون المرجع الديني ولا شيء سواه. إذا أراد الناس أن يعرفوا توجيهات اللّه وإرشاداته وأوامره ونواهيه, فعليهم أن يولّوا وجوههم شطر هذا الكتاب فقط؛ لأنه هو الوحيد الناطق باسم اللّه, ومن يدّعي غير ذلك فهو افتراء وبهتان على اللّه. اللّه عزّ وجل وضع أوامره ونواهيه وفصّل حقوق الناس التي تحفظ أموالهم ودماءهم وأعراضهم, وحدّد الشعائر, وذكر أمور الغيب, وحصر ما حرّمه على عباده من الأفعال والأقوال حصراً, كل ذلك في كتابه الكريم. وهذه الأمور كلها نصّ عليها القرآن صراحة بما لا يدع مجالاً للظن؛ لأنها قضايا مهمّة جداً, لم يتركها اللّه لتأويل البشر وتفسيراتهم حتى لا يطالها التحريف فتضيع الحقوق ويقع الظلم. هذه النصوص الصريحة الواضحة يشترك في فهمها الجميع, فالكل يفهم أن اللّه حرّم السرقة والقتل وأخذ أموال الناس بالباطل, ونهى عن إتيان الفاحشة, وأمر بالصلاة والزكاة والصوم, وحرّم أكل الميتة والدم ولحم الخنزير, ونهى عن الشرك به.... إلخ، فكل هذه الأمور وغيرها منصوص عليها صراحة في القرآن, ولا تحتاج إلى من يؤوّلها, أو يفسّرها, أو يُرشدنا إلى مفهومها أحد من البشر. أما ما استجد من القضايا التي لم يذكر الله فيها نصوصاً صريحة في كتابه, فقد تركها للناس, ليجتهدوا, ويُعملوا عقولهم فيها؛ لأنها من الأمور المتغيّرة التي تتغير بتغيُّر الزمان والمكان، فهنا اللّه عزّ وجل جعل المجال واسعاً للناس؛ كلُ يجتهد حسب وسعه، فاللّه لا يكلّف نفساً إلا وسعها، وما دام اللّه لا يُكلّفنا إلا قدر وسعنا, فهو لم يأمرنا بأن نلتمس فتوى من الآخرين؛ لأن مجرد التماس الفتوى من الآخر فهذا فيه تكليف للنفس فوق وسعها. فالقضايا التي ليس فيها نصوص قرآنية صريحة سواء بإتيانها أم باجتنابها, هذا يعني أن اللّه لا يُريد أن يُضيّق علينا فجعلها مفتوحة تحكمها تغيرات الزمان والمكان حسب تلاؤمها مع مصالح الناس سواء الخاصة أم العامة. نضرب هنا مثلاً واحداً للتوضيح, فاللّه عندما جعل من كفّارة اليمين إطعام عشرة مساكين من أوسط ما نُطعم أنفسنا وأهلينا, فقال: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ؛ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ؛ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ...} الآية «البقرة:225» فهو لم يحدّد نوع ومقدار الطعام الذي يجب أن نُخرج منه, وإنما جعله مفتوحاً بما يتناسب مع حالة الناس المادية وطعام زمانهم، فَوسط الإنسان ذي الحالة المادية المتوسطة ليس كوسط جاره الغني, ووسط الناس في زمن الرسول وما بعده ليس كوسط الناس في زماننا هذا، فمن طعامه المعتاد هو البر والشعير سيُخرج من البر والشعير, ومن طعامه الأرز سيُخرج من الأرز, ومن طعامه اللحم سيُخرج من اللحم, وهكذا. لكن مع ذلك نجد من يُضيّق على نفسه, فيذهب يطلب فتوى من فلان فيما يجب أن يُخرجه من الطعام كفهارة ليمينه..!!، فإن اللّه لم يُلزمنا بنوع ومقدار معيّن, وإلا لكان قد حدّده في كتابه, وأراحنا من تسوّل الفتوى من الآخرين, الذي من شأنه قد يُثقل علينا، فالإنسان أدرى الناس بحالته المادية, وأدرى الناس بما هو طعامه المعتاد, فهو أفضل من يُفتي نفسه، الأمور التي ليس فيها نصوص قرآنية صريحة, فإن الإنسان يأتيها حسب اجتهاده ووسعه, وليس حسب اجتهاد الآخرين, ووسعهم. قد يقول قائل: ما أدراني أني أصبت الخير في اجتهادي، وأن الإنسان قد يأتي الشر مبرّراً ذلك أنه استفتى قلبه في ذلك..؟! فنقول إن قلب الإنسان هو من يستطيع أن يهديه إلى ما هو خير وما هو شر, ويستطيع أن يُميّز الخبيث من الطيب، فما دام الإنسان صادقاً مع نفسه يُريد أن يلتمس الخير, فإن قلبه كفيل بأن يحقّق له ذلك. من هنا نستطيع أن نفهم الحديث المنسوب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام حينما قال: (استفتِ قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك) ففتوى القلب هنا في الأمور التي ليس فيها نص صريح في القرآن, أما ما جاء فيها نصوص قرآنية صريحة فهذه لا تحتاج إلى سؤال أصلاً؛ لأنها مبيّنة في كتاب اللّه، أما عندما يبحث الإنسان عن الفتوى عند الآخرين حول قضية معيّنة ليس فيها نص صريح في كتاب اللّه, فيوهم نفسه أنه يبحث عن حكم اللّه فيها, فهذا من التنطّع, والتشدّد الذي يمقته الله، فلو كان فيها حكم صريح للّه فكنّا سنجده في كتابه، أما مادام لم يذكر لها حكماً معيّناً, فهذا متروك للناس يجتهدون فيها كل حسب وسعهم، وفي الأخير استفتِ فيها قلبك. استفتِ قلبك أيها الإنسان, وهو سيدلّك إلى الخير, أما إن كنت تُريد أن تقترف أمراً فيه ضرر للناس, أو تأتي منكراً تأباه النفس, فتبحث عمّن يبرّره لك بفتوى ظناً منك أن اللّه سيُعفيك من المسؤولية لأن من أفتاك سيتحمّلها, فهذا هراء ومغالطة..!!. قد يقول قائل إن هناك آية تأمرنا أن نسأل أهل الذكر عندما لا نجد حكماً لقضية معيّنة في كتاب اللّه..؟!، فنقول: أولاً هذه ليست آية, وإنما هي جزء من آية, فالآية تقول: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَك َإِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم، ْفَاسْأَلُواْ أَهْل َالذِّكْر ِإِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} «الأنبياء:7» فهنا الله يُخبر قريشاً حينما أنكروا أن يكون محمدٌ رسولاً وهو من البشر, فقال اللّه لهم: «اسألوا أهل الذكر» – أي أهل العلم – من اليهود والنصارى؛ هل كان الرسل الذين أتوهم بشراً أم ملائكة, فأهل الذكر المقصودون هنا هم أهل الكتاب, وهذا ما ذكره ابن كثير, والقرطبي, والبغوي في تفسيراتهم. خلاصة القول, إن اللّه ما كلّفنا به من أوامر, ونهانا عنه من نواهٍ فقد ذكرها صراحة ووضوحاً في كتابه الكريم, حتى نتحمّل المسؤولية في حال تقصيرنا، فلا تكليف ديني إلا من اللّه وحده فقط؛ وهو صاحب الفتوى في مسائل الدين، أما ما لم يذكره في كتابه, أو ما استجد من قضايا ليس لها ذكر في القرآن, فهنا نجتهد فيها حسب المصلحة, ولسنا مكلّفين أن نبحث عن حكمها عند غيرنا من الناس, وبعدها نستفتي فيها قلوبنا, وهي كفيلة بأن تدلّنا إلى الخير, وتُميّز لنا الخبيث من الطيب، وفي الأخير لا يُكلّف اللّه نفساً إلا وسعها، أما الآخر الذي نلتمس الفتوى من عنده؛ فهو لا يُعطينا حكم الله وإنما يُعطينا رأياً واجتهاداً يُنسب لنفسه وليس إلى اللّه. فنسأل الله أن يُلهمنا الرشد والصواب..