سؤال العلاقة بين الفن والفلسفة كان دوماً سؤالاً ملتبساً؛ زاد من التباسه في الأفهام أنه حظي بإجابات شديدة التباين والاختلاف من قبل اتجاهات التفكير والتفلسف، حيث ذهبت إلى حد بلورة مواقف متناقضة في تحديد طبيعة الممارسة الفنية وتقدير وظيفتها وقيمتها؛ إذ من الملاحظ أن الفكر الفلسفي تجاذب في سياق تطوّره التاريخي علاقة لم تخلُ من تصارع وتعالٍ على الفن، لكن في أحايين أخرى نجد تقديراً خاصاً للأسلوب الفني يذهب إلى حد استصغار الفلسفة في مقارنتها معه، حتى في حقلها الذي هو إدراك العالم وفهم الوجود.. ولذا، فلا عجب أن يخلص القارئ لنصوص الفكر الفلسفي إلى إبصار مواقف متناقضة في تقييم الفلسفة للخطاب الفني وتحديد مرتبته بين الأقاويل/الخطابات الثقافية. ويمكن أن نستحضر كمثال على المواقف الموغلة في احتقار الفن ونبذه، الفلسفة الأفلاطونية التي نظرت إلى الفن بوصفه وهماً، يقتصر على محاكاة الوجود الحسّي الذي هو بدوره مجرّد تقليد لعالم المثل؛ ورأت في الأسلوب الفنّي مجرّد منظور قاصر في التعاطي مع الوجود وعاجز عن إدراك ماهياته، بل بلغ أفلاطون في تنظيره اليوتوبي للجمهورية الفاضلة إلى حد نبذ الفن والفنانين من هذه الجمهورية لعدم حاجة المجتمع إليهم؛ لأنهم في نظره مجرد تجار أوهام، والمجتمع الفاضل يتأسّس على الحقيقة ولا مكان للوهم في جغرافيته. لكن في مقابل هذا الموقف، ثمّة رؤى أخرى مغايرة تماماً، ففلاسفة ما قبل سقراط، مثل هيراقليط وبرمنيد وأمباذوقليس؛ لم يكونوا مستهجنين للأسلوب الفنّي، بل إن نصوصهم الفلسفية كانت أصلاً مصاغة في شكل قصائد شعرية، ترى ما سبب هذا اللجوء المتعمّد إلى الفن الشعري للتعبير عن المعرفة الفلسفية..؟. أرى أن هذا لم يكن مجرد انتهاج لنمط في التعبير، بل أزعم أنه كان اختياراً إبستمولوجياً، حيث كانت رؤاهم الفلسفية العميقة التي تنزع نحو استكناه سر الكينونة والوجود، مرغمة على توسُّل الخطاب الشعري لما يتيحه من إيحاء ولغة إشارية ثرية في إمكاناتها الدلالية، فلا ريب أن استغلاق موضوع هذه المعرفة واتساع مجاله، وغموض مكوّناته يدفع إلى البحث عن سبل أخرى غير مسالك العقلنة وأسلوبها في التعبير، ألم يقل النفري: “كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة” وهل هناك أضيق في التعبير عن حقيقة الوجود من لغة الفلسفة وأقيستها..؟!. لعل هذا ما استشعره فلاسفة ما قبل سقراط، فتوسّلوا لغة الشعر المفتوحة على إمكانيات الإيحاء والانزياح، بدل اللغة النثرية الخاضعة للتقعيد والضبط الدلاليين. لكن لم يكن هذا الاختلاف في تقدير الفن وتحديد قيمته محصوراً في العصر اليوناني؛ بل نلاحظه متداولاً في مختلف لحظات تطور الفكر الفلسفي. وعندما تقل تلك الأحكام القدحية، فإننا نجد الفن يطرح داخل الوسط الفلسفي بوصفه موضوعاً لدراسة يتم تأطيرها داخل مبحث القيم «الأكسيولوجيا» حيث يُبحث عن منبعه وأصله، وعن طبيعة الذوق والحكم الجماليين، وغير هذا وذاك من المباحث التي أخذ يصطلح عليها لاحقاً في مجال “فلسفة الفن” ب “الاستيطيقا” حسب مصطلح مؤسّسها الفيلسوف الألماني بومجارتن (1714-1762). وإذا كانت علاقة الفلسفة بالفن في إطار مبحث القيم (الأكسيولوجيا) هي علاقة مرجعية إبستمولوجية (أي موضعة الفلسفة بوصفها حقلاً معرفياً يدرّس الفن بوصفه موضوعاً) وإذا كانت الأحكام المتناولة لقدرة الفن على إدراك العالم، تذهب أحياناً كثيرة منحى الاستهجان والاحتقار، وخاصة من قبل الاتجاه العقلاني الواثق من العقل والمقلّل من قيمة أي مسالك إدراكية أو تعبيرية أخرى كالخيال والعاطفة والشعر والموسيقى، فإن التوجُّه الفلسفي اللا عقلاني سيطرح مسألة العلاقة على نحو مغاير تماماً، فبدلاً من أن يكون الفن موضوعاً يصبح منظوراً معرفيا؛ أي بدلاً من أن نعرف الفن، فإننا نعرف بالفن. وهكذا سيصبح الإدراك الجمالي رؤية إبستمولوجية لها اقتدار على فهم الوجود والنفاذ إلى كنهه على نحو أعمق وأفضل من الأدوات المعرفية الفلسفية القائمة على العقل وأقيسته وموازناته المنطقية الجافة، هذا التحوّل في تقدير الفن هو ما نلحظه في فلسفات شوبنهور ونيتشه وهيدغر.