يفتح الترميز فضاءات التأويل وقد كان محط اهتمام ودخلت في كثير من المجالات منذ ظهورها في فرنسا في أواخر القرن التاسع عشر كرد فعل للمدرستين الواقعية و الطبعانية وظهرت أعمال كثيرة رمزية في الشعر والقصّة الروائية واجتذبت الحركة لها الكثيرين؛ منهم الشاعر الفرنسي الشهير آرثر رامبو الذي تحوّل من الرومانسية إلى الرمزية وأصبح شاعراً رمزياً، ومع مرور زمن طويل على تداول الترميز وخروج تيارات جديدة وتغيّرات كثيرة في الساحة الأدبية ظلّ هذا اللون يستخدم، ونجد الشاعر حمدان طاهر المالكي وضع الترميز في مجموعته الشعرية التي عنوانها «مجرد شجرة» ومن العنوان الذي هو مفتاح الدخول إلى العالم نجد الشاعر يخلق ترمزياً؛ فهو لم يوضح ما تلك الشجرة ولماذا أدخلها، وهل كانت تشكّل حدثاً مهماً كي يقول إنها مجرد شجرة..؟! تساؤلات يطرحها العنوان، يقول الشاعر حمدان طاهر المالكي في أحد نصوص مجموعته: كلاكما يقفَ طويلاً كي يرتبَ عبارةَ الظلال **** هكذا أمرُّ من فسحةِ الليل الليلُ الذي يجرّني مثلَ غريقٍ نحوَ ساحلِ الحلم أجاد الشاعر في الربط بين وقوف الشجرة وحبيبته بطلة القصيدة التي أرمز لها ب«أنت» الضمير المخاطب؛ لأنه يعرف أن تصوّراتنا ستحيلنا إلى أن المقصودة في الكلام الحبيبة، ثم أدخل فكرة أن الشجرة وهي يصنعان عبارة الظل، ولم يباشر في القول: «أنت وهي تصنعان الظل» بل استعارات كلمة عبارة "الظل" ليجعل حضوراً للانزياح. وإذا انتقلنا إلى المقطع الثاني سنرى الشاعر يشبّه الليل بالبحر وأنه يسحبه نحو ساحل الحلم: شجرةٌ وحيدةٌ أستظلَّ بكِ الحالمون للخلاصِ من سعاداتِهم المزمنة وحطّتْ عليك الحمائمُ الهاربة من عيونِ الصياد ورفرفتْ حولكِ أرواحُ الشهداء وهي تمسحُ عتمةَ اليقين برشفةِ الضياء وأنتِ هنا يقيّدُكِ صوتُ الرعاة ليس لكل شاعر القدرة على إدخال الرمز في عمله والتحكم به، والشاعر هنا صنع خطاباً مع شجرة لم يحدّد هوايتها، قد يكون المقصود كل شجرة ولكنه اكتفى بمخاطبة واحد بترميز لكل الشجر الباقي وقال لها إن ظلّها كان مكاناً للحلمين، وكانت أغصانك مكان أمان للحمام الهارب، ثم إنه يصوّر أن أرواح الشهداء تحوم حولها وأشرك الضياء والقين مع أرواح الشهداء كي يدلّ إلى أن لهم منزلة كبيرة ومع كل وصفة للفوائد الشجرة وجعلها ذات مكانة مميّزة ينتهي بالقول إنك هنا يقيّدك صوت الرعاة تسوقنا الدلالة إلى أنه يقصد أن هناك من يكون في مكانه لكن يقدّم كل شيء ويكون مفيداً أكثر من الذي يتظاهرون أنهم أصحاب عطاء ومنجز ولم يقدّموا أي شيء: سيذهبُ القتيلُ إلى أهلِه يقبّلُ أطفالَهُ كمسافرٍ ويمسحُ بمنديلِهِ دموعَ أمِّه يغلقُ البابَ بأصابعِ روحِه ويمضي طريقُهُ رشفةُ ضوء ليصلَ هناك لم تكنْ عائلتُهُ سوى ندبةٍ صغيرةٍ في وجهِ حياةٍ سوداء لا يوجد في مجموعة المالكي حضور للمكان والزمان؛ والسبب هو أنه يكتفي بالإشارة؛ مختصراً السرد، وهذه ميزة الشعر الترميزي يضع الشاعر نقاطاً أو شعرية أو اختصارات تاركاً الأمر للمتلقي وتفهّمه للنص، فالشاعر هنا يتحدّث عن عودة المقتول إلى أهله ويقبّل أطفاله ويمسح دموع أمّه، والإشارة الرمزية إلى عودة روح المقتول ظلم، وهناك روايات كثيرة أن بعض الأرواح تزور أهل بيتها، وقد وظّف الشاعر هذه الفكرة، وفي انتقالة فنية شبّه الشاعر قتل الإنسان بندبةٍ صغيرةٍ في وجهِ حياةٍ سوداء، إنه رفض داخلي وثورة يعبّر عنها الكاتب شعراً، يقول المالكي في الباقي من نصّه: القاتلُ أيضاً سيذهبُ إلى أهلِهِ لم يضجرْ من مهمّتِهِ بعد يقبّلُ نقودَهُ كعاشقٍ يمسحُ مسدّسَهُ من بقايا الذكرى ويضحكُ بأسنانٍ حمراء لا يحفلُ بزياراتِ ضحاياه الكثيرة ودائما يراهم وهم يملأون بيتَهُ بأنفاسِهم المتقطّعة أصبح مشهد دراما شعرية، ففي القسم الأول ذكر الشاعر عودة المقتول إلى بيته، وجعلنا نعيش مع لحظات الحزن، وكان يشدّنا ونحن نلمس الجوانب الجمالية بالعمل، ثم تحدّث في القسم الثاني عن عودة القاتل إلى بيته، ضحك بأسنانٍ حمراء؛ يرمز إلى الدم الذي سفكه، يضع الشاعر مفارقة جميلة بقوله: إن القاتل لا يحفلُ بزياراتِ ضحاياه الكثيرة، وهذه المفارقة محورها في نقطتين؛ الأولى مزاجية القاتل الذي أصبح لا يهتم بكثرة الضحايا؛ إي أنه شخص أدمن عمله، وقد رمز الكاتب إلى أن من يرتكب الغلط ولا يندم يفقد شعوره تجاه من يظلمهم، والنقطة الثانية هي أن قتلاه منتشرين في بيته.