كثيرة هي المنعطفات التاريخية التي مرت وتمر بها اليمن منذ نصف قرن.. فالتاريخ القريب للبلاد مليء بالمحن التي تعقبها آمال ورجاءات تصف مجرد الخروج من تلك المحن ب (المنعطف)، وما تلبث أن تلج في محن تتوالى تترا وتولد منعطفات أخرى. ثمة تشابه كبير يجمع بين المنعطفات التي عاشتها اليمن، بل وتعيشها حالياً، ويعزو العديد من المراقبين والمتابعين ذلك التشابه إلى ذات العوامل في البنية الاجتماعية والسياسية؛ باعتبارها منابع أساسية لكافة الصراعات التي ذاقتها البلاد.. فغالباً ما تتدخل البنى القبلية والمذهبية والسياسية في تحوير المنعطفات التاريخية عن مسارها، وفي أحايين كثيرة تحرفها عكسياً عن طريقها، وذلك عائد – بحسب خبراء السياسة اليمنية – إلى التركيبة المتناقضة المستعصية على التغيير، والماضية على غيها في فرملة المنعطفات التاريخية وإيقاف مسيرتها، أو تأجيلها إلى مراحل أخرى تقودها أجيال تالية. ورغم مرور خمسين عاماً على ثورة السادس والعشرين من سبتمبر عام 1962م ضد الحكم الإمامي بحجة استبداديته وظلمه، في مرحلة اعتبرت بأنها منعطف تاريخي يخرج البلاد من عهد مظلم إلى آخر مضيء، إلا أن اليمن يبدو أنه يعيد التاريخ من جديد. فهانحن بعد نصف قرن من الثورة السبتمبرية التي قامت ضد الظلم والاستبداد، نردد ذات الشعارات، ونرفع اللافتات نفسها، منعطف تاريخي، بعد قيام ثورة شبابية ناصعة، خالصة -على الأقل في مهدها وخطواتها الأولى- قامت في جانب من أسبابها على رفض الظلم الواقع على فئات كبيرة من الشعب، وضد فئة استأثرت بالسلطة والثروة والقوة، حتى كأنها أعادت النظام الذي كان قائماً قبل سبتمبر 1962م. مازلنا نعيش منعطفاً تاريخياً آخر.. يأمل اليمانيون من خلاله أن يلجوا إلى عوالم الناس من حولنا، ويلتحقوا بمن يحيطنا من دول وكيانات، حققت في سنوات ثورتنا الخمسين ما يحتم علينا التركيز على مستقبلنا الذي أنهكه التقاسم غير المفضي إلى أي شيء، تقاسم للسلطات يعيق تحقيق آمالنا، ويحيل أحلامنا إلى كوابيس، ويُحجم التغيير الذي كلف دماءً وجهوداً ضخمة. ولعل ثمة خصوصية يمنية ننفرد بها نحن معاشر اليمنيين، خصوصية تطغى على منعطفاتنا التاريخية الكثيرة تكتسي بأبعاد إقليمية ودولية، تفرض نوعية معينة من تقاسم السلطات في شكل يُلغي أو على الأقل يجعل للآخرين - من غير اليمنيين - الحق في التدخل بالشئون الخاصة، تحت مبررات منها مصلحة واستقرار اليمن. منذ نصف قرن.. كانت المنعطفات التاريخية شبيهة ببعضها البعض، وقلما تختلف، ويبدو أن التشابه في المراحل الهامة التي مرت بها اليمن ذات ترابط وثيق مع الوضع العام للبلاد سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، فليس ثمة شيء تغير خلال خمسة عقود على كافة المستويات، وكأننا نعيش اليوم ما عاشته البلاد غداة الثورة السبتمبرية في خطواتها السياسية والرسمية التي تمخضت عنها في الأيام الأولى من حياتها، حتى إن ذلك أثر كثيراً على الجوانب الأخرى، واكتفى الجميع بالتركيز على الخلافات السياسية وأُهملت القطاعات الاقتصادية الاجتماعية والثقافية، كما هو الحال اليوم تماماً. فحتى قبل الثورة كانت التجاذبات السياسية الإقليمية والخارجية تعصف بالبلاد من كل النواحي، وتأكدت أكثر في مسيرة الثورة التي لم تكن مستقرة أبداً، ذلك أن هوى المسير قدماً في تحقيق الأهداف التي من أجلها اندلعت الثورة لم يكن بيد الثوار أنفسهم، بل بيد غيرهم من الكيانات والقوى المتربصة والمحيطة والمترقبة عن بُعد. وهذا الذي جسدته بكل وضوح أول حكومة يمنية عقب الثورة السبتمبرية مباشرة، الحكومة التي أنشئت بعد يومين فقط من قيام الثورة، ورافق الحكومة إنشاء مجلس قيادة الثورة ومجلس الرئاسة، وباستثناء مجلس الرئاسة الذي ترأسه محمد علي عثمان (أبرز رجالات العهد الذي قامت ضده الثورة)، ترأس المشير عبدالله السلال، أول حكومة، وكذا أول مجلس لقيادة الثورة. فبالنظر إلى تشكيلة الحكومة الأولى في تاريخ الجمهورية الأولى في اليمن، نجد أن ثمانية عشر وزيراً، كانوا هم قوامها، نصفهم –أو على الأقل كثير منهم - ينتمي للعهد الملكي الذي ناهضته الثورة. تلك السياسة التي سار عليها ثوار سبتمبر، تأكيد على التجاذبات السياسية التي عاشتها الثورة في مهدها، وتجسيد على أن الثوار كانوا يضعون حساباً لشخصيات مازال ولاؤها للنظام الزائل، وإذا قارنا تلك الحسابات مع الحسابات الثورية البحتة، والتي تصف الثورة بأنها مرحلة فاصلة بين مرحلتين ماضية وقادمة، وأنها –الثورة - تقطع كل ما له صلة بالعهود التي قامت من أجل إسقاطها، بحسب الأدبيات التقليدية التي تعرف الثورة وتنظر للفكر الثوري، فإنه سيتأكد لنا جلياً، كم كان ثوار سبتمبر متسامحين إلى حدود بعيدة مع شخصيات محسوبة على الإمام، لدرجة انضمامهم إلى أول حكومة، وترأس بعض قياداتهم مجالس ثورية ورئاسية مناقضة تماماً للعهد الملكي. ولعل ما دفع الثوار إلى فعلٍ كهذا، بل وحتى التشكيل السريع للأجهزة القيادية رغبتهم في إظهار أن مسألة القضاء على الإمامة قد جاء لصالح جميع قوى المعارضة، وتأكيداً على أن الجيش والثوار لا ينويان احتكار السلطة في ظل النظام الجمهوري الجديد. وهذا التبرير وإن جاء على لسان قادة الثوار في مذكراتهم، إلا أنه لم يلغ حرص الثوار على استمالة بعض الشخصيات القوية المعتدلة ذات الميول الملكي وجذبها إلى صفوف الثوار، الأمر الذي أوقع الثائرين في تناقض جسدته التشكيلة الأولى للحكومة (البكر) في الجمهورية الوليدة، ذلك التناقض المتمثل في احتواء الأجهزة العليا للسلطة على شخصيات ذات ميول معينة ليست بالضرورة موالية للثورة بقدر حنقها وبغضها للنظام الزائل. فجمعت الحكومة وأجهزة السلطة القيادية جميع فرق المعارضة المختلفة مع بيت حميد الدين، فكانت أن ضمت المعارضة التقليدية ممثلة بشخص (محمد محمود الزبيري)، والبرجوازية التجارية المحلية ورجال الأعمال، ورجالات النظام السابق الذين أخذوا موقفاً ضد الإمام (عبد الرحمن الإرياني ومحمد علي عثمان)، وحتى اليمنيين المغتربين (محسن العيني وعبدالرحمن البيضاني). الحكومة الأولى لثورة سبتمبر لم تستمر كثيراً، بسبب التجاذبات والتدخلات السياسية من أطراف خارجية جعلت من اليمن مسرحاً لصراعات النفوذ والهيمنة، ففي آخر أيام شهر أكتوبر من عام 1963، أعيد تشكيل مجلس قيادة الثورة بقيادة السلال، وضم في عضويته سبع عشرة شخصية منهم الدكتور عبدالرحمن البيضاني، والقاضي عبدالرحمن الإرياني، والقاضي عبدالسلام صبرة، واللواء عبدالله جزيلان.. كما تم تشكيل الحكومة برئاسة عبدالله السلال، وعضوية كل من الدكتور البيضاني، واللواء جزيلان، واللواء عبداللطيف ضيف الله، والقاضي الإرياني، واللواء حسن العمري. وكما ذكرنا سابقاً أن التشكيلات الحكومية الأولى وصفها مفكرون ومؤرخون بالمتناقضة، وذلك بالنظر إلى غايات ووسائل المنضمين تحت التشكيلة الأولى للحكومة أو حتى التشكيلات التي تلتها، حيث كانت الحكومة تتعرض لتعديلات تترا، بتدخلات خارجية. يقول مفكر اليمن الكبير وأديبها عبدالله البردوني: (بعد إعلان الجمهورية بساعات أعلنت كل التنظيمات الخفية عن هويتها، وكانت الفترة مبعث أمل كل الطامحين، فبدأ التناقض على الوسائل والغايات). ولأن بعض الانتماءات الخاصة انطلقت عقب الثورة فقد كان لبعضها نشاط عنيف، وأعداد أفرادها أكثر؛ نظراً لكثرة رفاقهم في قيادة الثورة والمجلس الحكومي.. ومن الطبيعي أن ينجم عن هذا التشكيل (المتناقض وغير السوي) لأول الحكومات الجمهورية في اليمن الكثير من الصراعات السياسية، فالجميع اتفق على معاداة النظام الزائل، لكنهم لم يتفقوا على أن يذروا خلافاتهم أو أطماعهم السياسية، أو على الأقل أن يتفقوا على خدمة اليمن. يستطرد البردوني في كتابه (اليمن الجمهوري):(...فابتدأت مرحلة الصراع والتراشق بالتهم بين التنظيمات – الانتماءات السياسية الموجودة في الحكومة - وبعضها أمن على نفسه بوجوده في السلطة من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن قيادة الثورة والحكومة (الأولى) أرادت رعاية كل المواطنين وإطلاق كل الحريات، حتى لا يكون اليمن الجمهوري امتداداً لليمن المتوكلي). وذلك يعني أن التشكيلة لم يراعِ القائمون عليها أو لم يحرصوا على أن يكون المنضوون تحت الحكومة الأولى مؤمنين بالثورة ومستعدين على أن يهبوا أنفسهم من أجلها، بل كانت نكاية بعهد سابق أو تبرئة منه، ولم يحظ العهد الجديد بالاهتمام الواجب الذي يضمن للشعب حياة جديدة وكريمة. تلك التناقضات في الحكومة سرعان ما تحولت إلى صراع حتى بين المثقفين والقيادة العسكرية في اليمن، هذه التنظيمات السياسية التي جاءت من الخمسينيات تحت التستر تعرضت لسفور سبتمبر فدخلت مرحلة النضال الحقيقي، غير أن هذا لم يكن الصراع الوحيد بين السلطة وسائر الساسة المحترفين والتنظيميين؛ لأن انتهاء الملكية كان بمثابة انفراج لكل طموح مشروع وغير مشروع، فكان هناك صراع بين الضباط القدامى، والضباط الأحداث، وكان الإصلاحيون يحاولون علاج الموقف بتشكيل الحكومات من عدة اتجاهات، حيناً من منظور تنظيمي، وحيناً من منظور طائفي).. هكذا وصف البردوني تلك الحكومة الأولى. ولعل أهم ما أشار إليه البردوني أعلاه ما عرضنا عليه سلفاً، من أن التناقض الحاصل في التركيبة الحكومة الأولى والأجهزة القيادية للثورة هو ما حتم وجود سلسلة من الصراعات السياسية منذ غداة الثورة وحتى ما بعدها بعقود، رغم جهود الإصلاح التي تبنتها الجماعات والتنظيمات السياسية الراغبة في التغيير والنأي بالثورة عن الصراعات.. وما يدفع تلك الجماعات والتنظيمات هو تجنيب الثورة التي رفعت شعارات التقدمية والتحرر من الانغماس في وحل الرجعية أو العودة إليها مرة أخرى. يؤكد البردوني رحمه الله ذلك بقوله: (..وقد دل أول تشكيل حكومي على مراعاة الجانب البرجوازي عندما استأثر ثلاثة من التجار بإجماع قيادة الثورة.. وأرادت سلطة الجمهورية الأولى أن تخفف هذا الغليان من التناقضات حتى لا يستفيد منه العدو المحارب، فوزعت على كل الاتجاهات بطريقة غير جبهوية، غير أن هذا لم يحقق الوطن المنشود الذي تطمح إليه الثقافة والسياسة الوطنية). ونظراً لذلك الصراع ظلت الجمهورية الأولى وحكومتها البكر وحكوماتها التاليات شبه مرفوضة، وهذا ما ضاعف الصراعات وساهم في استمرار المعارك العسكرية من المناوئين للجمهورية، طيلة نصف عقد من عمر الثورة، حتى عادت القوى الملكية إلى السلطة وتمسكت ببعض ما قد كان تفلت منها. ذلك الحال الذي مرت به مسيرة الثورة السبتمبرية الخالدة، نعيشه اليوم بكل تجلياته في أول حكومة ثورية عقب الثورة الشبابية السلمية التي اندلعت العام الماضي، والتي تمخضت عنها التوقيع على المبادرة الخليجية وتشكيل حكومة وفاق وطني، حبلى بالتناقضات التي خلفها الصراع السياسي على السلطة منذ نصف عقد خلا، بعد انتخابات الرئاسة عام 2006م. ولأن الثورة الشبابية تمتعت بطهر ذاتي لم تشهده ثورات عديدة، من جانب عفوية الشباب الذي فجرها، وعدم تدخل الأحزاب السياسية إلا مؤخراً، فإن الخوف على التناقضات الموجودة في حكومة الوفاق الوطني – حكومة الثورة مجازاً - لا يقل عن ذلك الخوف والترقب الذي حاول الإصلاحيون في زمن ثورة سبتمبر 1962 أن يلغوه من نفوسهم، من خلال البحث عن أسس أخرى غير تلك السياسية والجهوية والقبلية والبرجوازية لتشكيل حكومة تضمن مسيرة الثورة وتفرض أهدافها وتسعى إلى تحقيقها. فيما نحن اليوم نعيش حكومة يعلوها التناقض من رأسها حتى أخمص قدمها، ونستشف ذلك جلياً من جلسات البرلمان التي تحولت إلى محاولات نكاية و(محانبة) ليس إلا، رغم أنها حكومة وفاق وطني يستوجب عليها التوافق على كل صغيرة وكبيرة، وليس «وضع العقد في المنشار» كما يقول المثل الشعبي. وغير بعيد عن صراعات ما بعد سبتمبر 1962، فإن الوضع الحالي ما بعد حكومة الوفاق الحالية لا يختلف كثيراً، فثمة عدم استقرار أمني، وهناك تشتت في قوات الجيش، وتكاثر في محاولات الاغتيال والحوادث الأمنية والانفجارات المتواليات. وبغض النظر عمّن يكون خلف تلك الحوادث غير أن الرائي للوضع العام يؤكد أنه لولا الصراع السياسي والاختلاف الحزبي لكنا قد تجنبنا كل ذلك الصراع والخلاف المبني على تناقضات في بنية الحكومة، كتلك التناقضات الحاصلة في حكومة ثورة سبتمبر التي كانت منذ نصف قرن. الجانب الآخر الذي يلح علينا إليه، هو ذلك التدخل الخارجي في الثورات التي تشهدها اليمن منذ ثورة 1962 وحتى ثورة 2011، فبعد الوجود المصري والتدخل السعودي في ثورة سبتمبر، هانحن نعيش تدخلات كبرى في ظل ثورة قدم الكثير من التضحيات وجاءت الإملاءات الخارجية لتفرض رؤيتها بغض النظر عن رؤية اليمنيين أنفسهم. فكانت المبادرة الخليجية التي رعتها الدول الدائمة العضوية والاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي، وما أشبه الليلة بالبارحة. واستعراضنا لحال الثورتين (السبتمبرية والشبابية) وواقعهما المعاش، ليس مجرد ضرب من الترف أو البذخ الفكري، بقدر ما هو محاولة للاستفادة من أخطاء الماضي، وعدم تكراراها في الحاضر، خاصةً وأن الشعب اليمن (شبع) من الوعود التترا بالتنمية والعهد الجديد، كما (شبع) من كثرة المنعطفات التاريخية التي (انعطف) بها عبر تاريخ ثوراته ومسيرته الوطنية، كما إنه ضاق ذرعاً بتدخلات الغير في شئوننا. إن التقدم المنشود والتطور الذي يريده اليمنيون ليس بمقدور أحد أن يصنعه سوى اليمنيين أنفسهم، بشرط أن يتركوا صراعاتهم ومشاكلهم جانباً، كما إن الحديث عن تاريخ الثورة والحكومة الأولى معناه تجنيب اليمن خمسين عاماً أخرى من السير في ذات الطريق الموحش الذي لم يزدنا إلا تمسكاً بأحلامنا وآمالنا بغد مشرق لليمن واليمنيين الذين يستحقون حياة كريمة؛ لأنهم ليسوا بأقل من شعوب الأرض.