رغم ما يشهده التعليم العالي في بلادنا من طفرة نوعية وتطور كبير ولافت إلا أن ثمة اختلالات واضحة رافقت ذلك، وجعلت «الكم» يتنامى على حساب «الكيف» وما العجز الحاصل في التخصصات العلمية وفي مرافقنا التعليمية العليا إلا صورة مصغرة لذلك، المشكلة بشهادة كثير من المهتمين ليست وليدة اللحظة، بقدر ما هي حصيلة تراكمات توسعية في الشقين «المجتمعي والعلمي» وبلادنا جزء من كل؛ بل إن ذات المشكلة تتواجد في جميع البلدان؛ باستثناء البلدان الصناعية الكبرى، ولا فرق هنا بين دولة غنية وفقيرة، ودول الخليج المجاورة أقرب مثال على ذلك..!! صورة مصغرة الإنسان ثروة قومية «أولى»، اعتزت بلادنا بتملكه واهتمت بتأهيله وجعلت حيزاً كبيراً منه يرقى إلى أعلى مستويات التفكير الإنساني، لتحتل هذه «النخبة» بمعنى أصح «أساتذة الجامعات وأصحاب الشهادات العليا»، رأس هرم الثروة بل وتربعت عليه، وأضحت شريكاً فاعلاً في نهضتنا التعليمية والتنموية ولأن «الحلو» كما قيل «مايكملش»، رافق ذلك التطور عجزاً واضحاً في بعض التخصصات العلمية، كظاهرة أجمع غالبية المعنيين على وصفها ب «القصور المؤقت». المشكلة موجودة ومعترف بها، وتتفاوت ما بين جامعة وأخرى، فهذه جامعة تعز مثلاً يعترف مسؤوليها بوجود عجز في بعض التخصصات العلمية، وعزو ذلك إلى كون الجامعة ناشئة وفي بداية مشوارها التعليمي والأكاديمي، وأن العجز يتركز بصورة رئيسية في بعض الأقسام الجديدة لكليات الهندسة.. جامعة صنعاء هي الأخرى ليست بمنأى عن ذلك، ولكونها الأكبر من حيث الأقسام والفروع تحتل نصيب الأسد من هذا العجز، أما جامعة عدن فالصورة فيها مختلفة بعض الشيء، فكادرها الخاص والمؤهل والفاعل وفي جميع التخصصات وتعتمد عليه اعتماداً كاملاً بما نسبته من 90 % إلى 95 %. كليات التربية الغريب في الأمر أن كليات التربية هي الحاضر الأبرز في هذه المشكلة، وكلية التربية جامعة تعز واحدة من «32» كلية تربية متواجدة في بلادنا، تشكو من نفس العجز وبصورة دائمة ومستمرة، وفي هذا الصدد يقول الدكتور محمد سعيد الحاج أن نسبة كبيرة من أعضاء هيئة التدريس العاملين فيها مستقطبون من كليات أخرى كالعلوم والآداب، وفي ذلك إرباك كبير للأساتذة والطلاب. قد يكون هذا «الاستقطاب» الذي أفصح عنه الحاج بمثابة حل جزئي يتجسد حضوره داخل أسوار الجامعات، حيث تتواجد أكثر من كلية، فيما تبقى غالبية ال «32» كلية تربية الموزعة في أغلب المدن اليمنية بعيدة عن ذلك، وهنا يعترف الدكتور رشاد الشرعبي أن هذه الحلول المؤقتة ليست متوفرة لديهم في المحويت، حيث كان يعمل، وإن لم يكن العجز بنفس النسبة السابقة في تربية تعز إلا أنه يبقى أكثر تعقيداً لعدم توفر البديل. النظام التتابعي كحل لهذه المشكلة الجزئية التي تكاد تنفرد بها كليات التربية عمن سواها أورد لنا الدكتور محمد سعيد الحاج حلاً ناجحاً سيخفف كثيراً من العجز ليس على كليات التربية وحسب، بل على جميع الكليات والأقسام المختلفة. - يقول الحاج: من المعروف أن النظام «التكاملي» هو النظام التعليمي القائم في جميع كليات التربية، ولو استبدلنا ذلك بالنظام «التتابعي» كما هو معمول به في أغلب البلدان العربية والأجنبية، لوفر علينا كثيراً من الجهد كثيراً من الوقت وكثيراً من الكوادر، والطالب من خلال ذلك سيبحث أولاً عن التخصص الذي يرغب به ويدرسه بشكل مركز، ومن ثم إذا أراد أن يصبح معلماً يخضع في كلية التربية لامتحان تقييمي سواء من حيث الرغبة أو الكفاءة، ليدرس في ذات الكلية المنهج التربوي البحت ليكون عند تخرجه مُدرساً مُقتدراً ملماً بالقدرات التربوية والتخصص العلمي. - د. الحاج أكد أن رؤساء الجامعات وعمداء الكليات مع هذا التوجه، فيما اعترض عليه غالبية الأساتذة الجامعيين حيث يعتقد البعض منهم أن ذلك إجحاف في حقهم وسيولد بطالة في صفوفهم. مسألة وقت ماهي إلا مسألة وقت وسيخفف كثيراً من العجز الحاصل، وكما هو معلوم أن أغلب الجامعات الحكومية تعمل على ابتعاث طلبة إلى الخارج في التخصصات التي فيها نقص، وهذه العملية تأخذ الكثير من الوقت حتى يأخذ المبتعث على شهادتي الماجستير والدكتوراه. - كما أن الأساتذة العرب الوافدين يعملون على تغطية كثير من العجز، وفي حال عودة أولئك الطلبة المبتعثين بشهاداتهم العليا يتم إحلالهم بدلاً عن هؤلاء، وسيأتي اليوم الذي تكون فيه كوادرنا الأكاديمية محلية 100 %. معاناة تتكرر بغض النظر عن أية اختلالات قد تشوب أداءها ومخرجاتها، تعد الجامعات الخاصة شريكاً فاعلاً في التنمية، ومساهماً بارزاً في التخفيف من الإقبال المتزايد على الجامعات الحكومية، التي تشاركها معاناة العجز في التخصصات العلمية. فيما يعيب غالبية المهتمين على «الجامعات الخاصة» بأنها تعمل على استغلال الكفاءات العلمية المتخصصة وإنهاكها وجعلها تعمل أكثر من طاقاتها، من خلال مغريات مالية؛ وهذا كله على حساب الطالب الجامعي «الحكومي». قضايا ماثلة مما لاشك فيه أن جامعاتنا اليمنية والعربية عموماً تواجه تحديات جمة، وما هذه المشكلة التي بين أيدينا إلا غيض من فيض؛ ومما زاد الطين بلة أن ثمة تأكيدات تتوارد من هنا وهناك بأن غالبية تلك الجامعات مغرقة بالعمل الإداري عن العمل الأكاديمي، وهو الأمر الذي يلقي بظلاله على عديد قضايا ماثلة، مما يؤثر قطعاً على أية حلول قد تُطرح، بل ويقلل من جديتها، ولو تأملنا جيداً ما خلصت إليه الآراء السابقة من حلول مقنعة تلوكها الألسن بكل سهولة ويسر، إلا أن الأمر كما يبدو ليس بهذه السهولة، وكي نبدأ الخطوة الأولى في طريق المعالجة، لابد من جدية في الأخذ والرد ومن ثم المزج بين جميع الآراء لتتوصل في النهاية إلى رؤية موحدة تركز على مكامن الخلل ودون مبالغة أو تهاون. طريق المعالجة ومن هذا المنطلق الذي جميعنا يتطلع إليه أوضح هذه الجزئية أكثر، وهنا أجزم أن عملية تحويل نظامنا التعليمي من «تكاملي» إلى «تتابعي» حل سليم ينبغي أن يتحمس له الجميع، وحتى نكون أكثر إنصافاً وواقعية، ينبغي الأخذ به تدريجياً حتى لا يتضرر أحد، ولعل كلام الدكتور محمد سعيد الحاج فيه كثير من الإيضاح إلا أني أزيد عليه أن يدار الأمر من خلال خطة تشرف عليه وزارة التعليم العالي والبحث العلمي مباشرة، وتكون قائمة على الاستفادة من الخبرات والكفاءات العلمية بين جميع مرافقنا التعليمية، على أن تكون هذه الاستفادة محكومة بضوابط، بحيث يكون الأستاذ الجامعي صاحب التخصص الذي فيه عجز تحت تصرف أكثر من جامعة وفق آلية النظام «التتابعي». ومن خلال هذا التوافق حتماً سيستفيد الجميع وسيخفف الضرر، وفي حال تبدت أية سلبيات مرافقه، أو لنجعله حلاً موقتاً حتى عودة طلبتنا المبتعثين من الخارج بشهاداتهم العليا.