في زمن التشطير وخصوصاً بعد قيام الجمهوريتين في اليمن عانى القرويون في المناطق الواقعة على الحدود الكثير من الويلات، ليس بسبب الحدود فقط ولكن بسبب التوجهات الأيديولوجية المختلفة لدى الشطرين والتي جعلت من منطقة حدود التماس جحيماً بالنسبة للقرويين من سكان تلك المناطق الذين دفعوا ثمن الانتماء لوطنهم غالياً. الجمهورية وبمناسبة الذكرى ال (23)لإعادة تحقيق الوحدة اليمنية عادت إلى مدينة الراهدة التي كانت أبرز مناطق العبور بين الشطرين سابقاً لتظهر بعضاً من ملامح المعاناة التي عايشها أبناء الوطن جراء التشطير. الإخوة يتقاسمون المرتفعات يعتقد كثير من الناس أن حدود التماس بين الشطرين كانت تقع في منطقة الشريجة على طريق تعزعدن، لكن الحقيقة أن حدود التماس بين دولتي اليمن كانت تبدأ قبل (6 كم) من منطقة العبور في الشريجة وتحديداً كانت الحدود تبدأ من منطقة (الجربوب)الواقعة في الجهة اليسرى من طريق تعزعدن، على بعد أقل من كيلو متر واحد خارج مدينة الراهدة، حيث كان الإخوة قد تقاسموا الوطن على أسس عدائية غير متسامحة، جبل للشمال وإلى جواره مباشرة جبل للجنوب، جبل (حمالة) يتبع جمهورية الجنوب وإلى جواره مباشرة جبل (القاهر) يتبع جمهورية الشمال وهكذا دواليك جبل للجنوب وجبل للشمال حتى منطقة جبل( حمر )على مسافة خمسة كيلو مترات من خط تعز تقاسم الإخوة بالشطرين كل المرتفعات بشكل لم يوفروا خلاله أي استعدادات قتالية قد تمثل عامل تفوق لطرف على حساب طرف. لكن هذا التقاسم للحدود لم يكن ينطبق على الجهة المقابلة من يمين الطريق والتي لم تكن تحتوي على أي جبال أو مرتفعات مهمة عسكرياً. وفي كل واحد من تلك الجبال أخذ الإخوة الأعداء يتربصون ببعضهم ويرصدون التحركات، وكان كل طرف يفسر أي حركة من قبل الطرف الآخر بشكل عدائي لم تسلم منه حتى قطعان الماشية، فكل من يدخل إلى حمى الطرف الآخر يعد جاسوساً يخضع لشتى صنوف العذاب، والويل لمن تزل قدمه بلحظة سهو من القرويين وينسى أن الأيديولوجيا فرقت بين الأهل والتضاريس والطبيعة المتجانسة للمكان والإنسان. استنفار أمني ضد القرويين لم تعرف الحدود بين الشطرين شكلها الحاد سوى بعد قيام جمهوريتي اليمن في الشمال والجنوب، وتحتفظ الذاكرة الشعبية لأهالي القرى المحيطة بمدينة الراهدة بالكثير من المآسي عن ويلات حدود التماس. قبة عبدالملك التاريخية الواقعة على مدخل مدينة الراهدة، كانت توحي بالسلام للزائر، لكن القبة بلونها الأبيض وشكلها الوادع لم تكن سوى مقدمة وهمية عن مدينة تخضع لحراسة مشددة من قبل الأجهزة الأمنية والتي كانت تعتبر المدينة زهرة انفتاح الشمال في مواجهة التوجهات اليسارية في الجنوب، فقد كانت الحركة ممنوعة في البراري المحيطة بالمدينة منذ الساعة الثامنة مساءً، وكل من يخالف ذلك من القرويين يتعرض للاعتقال بشبهة أنه قد يكون مخرباً تابعاً للأعداء في الطرف الآخر، وهناك من يعتبر أن تشدد الأمن في إجراءاته كان عاملا جيدا لحماية المدينة وازدهارها التجاري، فعندما كانت الجبهة الوطنية الديمقراطية توجه ضرباتها إلى عمق الدولة الشمالية كانت مدينة الراهدة تنعم بالهدوء بفضل الاحتياطات الأمنية المتشددة. رعي الغنم أخطر المهن عندما تم ركل البراميل من منطقتي العبور والتي كانت تمثل رمزاً مهيباً للأنظمة الصارمة في الشطرين، هلل الناس فرحاً فالذي تم ركله ليس مجرد برميل إنه علامة فارقة في تاريخ من الرعب عانى منه أبناء المناطق الواقعة على الحدود. على الحدود بين الشطرين كانت مهنة رعي الغنم تعد من أخطر المهن في ظل الأجواء المرعبة بين الشطرين، راشد أمين راعي غنم على الطرف الشمالي من الحدود يقول: كنا نرعي أغنامنا على الطرف الآخر من الطريق الأسفلتي؛ لأنه لم يكن يوجد فيها حدود تماس مباشر بين الشطرين بل كانت مفتوحة حتى نقطة العبور بين الشطرين في الشريجة وإذا حدث ودخلت إحدى الأغنام في حدود الطرف الجنوبي كنا نسلم بعدم عودتها نظراً للمخاطرة التي تكتنف محاولة إعادتها، ونفس الأمر كان ينطبق على رعاة الغنم في الطرف الآخر. عاشق الربوع معتقل في الحدود بعد غربة طويلة خارج الوطن عاد ناجي عبدالله حسن عبيديل يعصره الشوق لربوع بلاده. اشترى دراجة نارية وأخذ يتجول في ثنايا المنطقة ليشبع حنين الذكريات، قاد ناجي دراجته إلى منطقة الخطر عند مواقع الحدود بين الدولتين ودون أن ينتبه زلت دراجته من الشمال إلى الجنوب ، لم يكن ناجي يدرك أن خطوات بسيطة قد نقلته للتو بين دولتين. وأثناء متعته بجمال الطبيعة فوجئ ناجي بطلق ناري على إطار الدراجة وطلق ناري آخر أصاب كشافة الإضاءة الأمامية للدراجة، وبصوت يأمره أن يتوقف في مكانه ويكيل له سيلا من الشتائم، انذهل ناجي متسمراً في مكانه. ما هي إلا لحظات حتى أحاط به مجموعة من الأشخاص بلباس مدني، أجبروه بعيون تقدح شراً ولهجة صارمة أن ينزل عن الدراجة وبدأوا بتفكيك المصابيح سألهم ناجي: لماذا تفككون الدراجة!؟ صبوا عليه حمما من الشتائم وصرخوا به (أين الكاميرات) ثم اقتادوه وحملوا الدراجة إلى أعلى إحدى القمم المستخدمة كموقع رصد عسكري لمراقبة الحدود. وهناك خضع ناجي لتحقيق قاسٍ على مدار أربعة أيام بتهمة الجاسوسية تعرف ناجي على بعض من الذين كانوا يستجوبونه من أصدقاء قدامى من أبناء قريته، لكن ذلك لم يشفع له. أقسم لهم أنه ليس جاسوساً وأنه كان في الغربة دون جدوى، فقد كان لهم وسائل خاصة للتأكد من الشخص الواقع تحت أيديهم، وبعد أربعة أيام من المعاناة شعر ناجي باليأس من الخروج من الأسر، لكن حرس الحدود أطلقوا ناجي بعد أن توعدوه بالقتل إن تكررت زلته. وتم نقله إلى نقطة كرش في الحدود مع الشمال حيث تم تسليمه رسمياً للسلطات الشمالية وإلى جواره دراجته التي تم تفكيكها إلى قطع صغيرة. متهم في سجن الشمال لكن القضية لم تنته هنا فبمجرد أن وصل ناجي إلى يد السلطات الشمالية خضع مجدداً لتحقيق مكثف بشبهة أن يكون قد تم تجنيده لصالح الجنوب. وحول إذا ما كان يحمل رسائل لجواسيس الجنوب في الشمال وبعد أن أطلق سراح ناجي في بلاده ظل تحت دائرة الاشتباه، خاضعا للمراقبة مدة طويلة من قبل السلطات الشمالية.