لعلّ أبرز محطّة يجتهد فيها الصائمون في الشهر الفضيل بسائر أنواع العبادة، هي العشر الأواخر، لِما فيها من خير وبركة، مقتدين في ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي كان يعظّم هذه العشر، ويجتهد فيها اجتهاداً كبيراً، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره”. ويغتنم المؤمنون هذه الأيام المباركة، سواء في ذلك من قصّر في أيام الشهر الفضيل السابقة، أو من أوْفَى شهر الصيام حقّه في الأعمال الصالحة، لذلك فقد جعل الله تعالى العشر الأواخر من رمضان فرصة لمن ضيّع في العشرين قبلها، فخصّ تلك العشر من الفضل ما لم يخص بها أيام رمضان السابقة، رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن لله في أيام الدهر نفحات فتعرضوا لها، فلعل أحدكم أن تصيبه نفحة فلا يشقى بعدها أبداً”. ويلفت عضو الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين د. عامر القضاة إلى أن الإنسان يحتاج إلى محطات تزود لكل طاعة ترفعه، وإلى محطات أخرى للتنقية من كل رذيلة ارتكبها فكانت نفحات الشهر الفضيل في رمضان. والبيت المسلم في هذه العشر المباركة في حاجة إلى وضع برنامج للعبادة والذكر، وقراءة القرآن بما يشمل أفراد البيت كلهم صغاراً وكباراً، رجالاً، ونساءً، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: “لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحداً من أهله يطيق القيام إلا أقامه”. وذلك حتى يتعمق الإحساس بقيمة هذه العشر، ولقد كان المربي الأعظم والرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم يوقظ أهله في العشر الأواخر من رمضان، وذلك حتى يعتاد المؤمنون على قيام الليل، ويتحولون من حياة الرتابة والكسل والنوم طوال الليل إلى حياة الحيوية والنشاط، والقيام ولو في جزء يسير من الليل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليا أو صلى ركعتين جميعاً كتبا من الذاكرين والذاكرات”. ويُستحب الاجتهاد والحرص على مداومة القيام في العشر الأواخر من رمضان وإحياؤها بالعبادة واعتزال النساء وأمر الأهل بالاستكثار من الطاعة فيها، لما ورد عن عائشة رضي الله عنها “إن النبي صلى الله عليه وسلم، كان إذا دخل العشر الأواخر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وشد المئزر”. يقول د. عامر القضاة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يدخل في العشر الأواخر اعتكافاً كاملاً عن ملذات الدنيا، مبيناً “إن هذه حقيقة العشر وفيها دعوة لإحيائها بكل طاعة دون تحديد نوعها وكمها، لكننا نذكر أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل”. ويعد قيام اليل من أعظم القربات التي كان يتقرب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله سبحانه وتعالى في الشهر الفضيل، وكان صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر من رمضان بقيام الليل أكثر من أي وقت سابق، وقد اتبع المسلمون نبيهم عليه الصلاة والسلام في ذلك، فجعلوا العشر الأواخر ميداناً للتسابق إلى الصفوف الأولى في المساجد بقيام الليل، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: لرمضان من قامه إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه”. وعن فضل قيام الليل قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً... أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَاماً خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} [الفرقان، الآيات: 75-64]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أتاني جبريل فقال: يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت وأحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك مجزي به واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس”. كما قال صلى الله عليه وسلم: “يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلّوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام”. وما من صلاة يؤديها العبد المؤمن بعد الصلوات المفروضة أفضل من قيام الليل، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل”. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه: “ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار وصلاة الرجل من جوف الليل ثم تلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} السجدة: 17-16. وفي قيام الليل يعيش المؤمن نفحات إيمانية لا يكاد يجدها في غيره من العبادات، ومن هذه النفحات استجابة الدعاء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟”. وقيام الليل من أهم الأعمال التعبّديّة التي تسهم في ترسيخ حفظ القرآن في الصدر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا قام صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره وإذا لم يقم به نسيه”.