ساحة التغيير في العاصمة صنعاء، عزفت فيها أجمل الألحان, وسالت فيها أطهر الدماء.. صعدت منها أرواح إلى السماء, وأخرى إلى السلطة.. كانت مبيتاً للبعض, ومقهىً للبعض الآخر.. منها تخرج رسامون وكُتّاب وسياسيون, ومنها من عاد بخفي حنين! ها هي اليوم تودّع المشهد السياسي اليمني بعد عامين صاخبين وسنتين ساخطتين, أُزيلت كافة مخيماتها أخيراً, والغريب في ذلك أن قرار الإزالة كان مفاجئاً للكثير, ومرضياً للجميع!. لتطوى بذلك صفحات فصولٍ حزينة وأخرى مفرحة, غيرت واقع «اليمن» من عهد إلى عهد.. في هذا الاستطلاع سنتعرف على انطباع أبناء الحي المجاور للساحة, بما في ذلك طلاب الجامعة, بالإضافة إلى ردود أصحاب الخيام المُزالة.. من دون سابق ميعاد صباح الإثنين الفائت توافدت بشكل مفاجئ وغير متوقع وحدات أمنية تابعة للأمن المركزي والأمن العام في أمانة العاصمة, تصاحبها جرافات (الشيول) وقلابات (النقل), بالإضافة إلى سيارات أطقم عسكرية تحسباً لأي عنف قد يعرقل العملية, يقول ل «الجمهورية» شباب مستقلون ممن يملكون مخيمات في الساحة: إنه بعد توافد الوحدات الأمنية في الساعة الثامنة صباحاً, تفاجأنا من المشهد ولم نتوقع أن يحدث أمراً كهذا, أن يعطونا مهلة بالمغادرة وأخذ أغراضنا لإزالة الخيام, لكن بعد أن عرفنا أن ثمة اتفاق مجمع بين القوى السياسية لتنظيف الساحة, لم يكن منا إلا تقبل الأمر متيقنين سلفاً, أن هذا اليوم آتٍ لا محالة, وقد حان وقته, وعبروا متألمين: قمنا بإخلاء خيامنا, وأعيننا تقطر حزناً على فراق الساحة, وزادت قلوبنا حرقة لحظة مشاهدتنا احتراق الخيام. تقبل الأمر مصدر أمني ممن أشرف على الإزالة, كشف ل«الجمهورية» بقوله: إن إزالة الخيام جاءت بأوامر من اللجنة الأمنية العليا, وذلك بعد دراستها للوضع والمكان, وتأكدها من أن ليس هناك داعٍ لبقاء الخيام, كون دورها قد انتهى سياسياً وأصبح الوقت مناسباً لإزالتها .. وأشاد المصدر بمن كانوا متواجدين في الساحة من أصحاب المخيمات, نظراً لاستجابتهم الأمر وتعاونهم, وأوضح: لم نباشر عملية الإزالة, إلا بعد إعطاء مالكي الخيام, مهلة مدتها ثلاث ساعات, كي يتسنى لهم إفراغ ما بداخلها من أغراض قد تهمهم.. هذا وقد بدأت عملية إزالة المخيمات بالحرق والجرف, من ظهر ذات اليوم وحتى المساء, لتغدو الساحة صباح اليوم التالي خالية من أية حواجز أمنية أو خيمة واحدة, ولتُفتح بذلك طريق الدائري العام المؤدية إلى البوابة الشرقية للجامعة الجديدة المغلقة منذ قرابة 4 أعوام, كما فتحت جميع الممرات المتصلة بالساحة, وقد باشر على إثر ذلك رجال المرور بتأدية واجبهم, بتنظيم حركة السير في المكان. يصعب فراقها تتباين الانطباعات بين مؤيدٍ ومعارضٍ لإزالة المخيمات, فالأخ معين عاطف, أحد الثائرين المستقلين, الذي كان يملك خيمة بجوار بوابة الجامعة, لم يخف حزنه الشديد جراء ما حصل للساحة من تنظيف شامل, ويقول أنه عندما أتى في اليوم التالي إلى الساحة, لم يكن يعرف أنها قد أخليت, وعندما شاهدها؛ صعق من شدة هول المنظر, وكأن الزمن قد عاد به إلى قبل أربع سنوات, وأوضح عاطف قائلاً: لدينا منازل وأعمال, لكن الساحة كانت حياة بالنسبة لنا, والآن يصعب علينا فراقها, والنظر إليها تعج بحركة السيارات, لكنها السُنة الإلهية, وأضاف: رغم أننا لم نعوض بدل خيامنا ومقابل تضحياتنا في الساحة, إلا أننا مستعدون للخروج مرة أخرى في حال تم الالتفاف على أهداف الثورة.. وطالب عاطف الجهات المعنية بتعويض المتضررين مادياً من شباب الثورة والتكفل بعلاج بقية المصابين منهم, وأضاف أنه من العيب أن يتحول مثل هؤلاء الأبطال إلى شحاتين يقرعون أبواب الوزارات, فمن حق هذه الفئة أن تعيش كريمة, لا أن تتحول إلى قضية ابتزاز أو مناكفات سياسية يستغلها البعض.. وعلى مقربة من عاطف عبر ل «الجمهورية» عبد الرحمن البكاري, (مالك مطعم), عن سعادته البالغة لرؤيته عودة الروح والحياة إلى ساحة الجامعة, ويضيف أنه كان قد عرض مطعمه للبيع نظراً لانعدام دخله في العامين الأخيرين, لكنه الآن يتراجع عن قراره, كون الحركة ستعود إلى سابق عهدها. سعادة غامرة طلاب جامعة صنعاء بالإجماع, اندهشوا لرؤيتهم لحظات إزالة الخيام وإخلاء الساحة بالكامل, فهذه الأخت جهاد محمد, طالبة إدارة أعمال سنة ثانية, والتي لم تكن تعرف من قبل, شكل الساحة دون مخيمات حد قولها لم تستطع وصف سعادتها البالغة, إزاء فتح البوابة الشرقية للجامعة, سوى القول: الآن يمكننا الدخول والخروج من البوابة بكل حرية وأمان.. لا حواجز تفتيش ولا مضايقات, وبقاء الخيام أصلاً, لم يعد حقاً أو قانونياً منذ عامين. وأوضحت زميلتها أمل جعيد: أنه عندما كانت تمر من بين الخيام في طريقها إلى الجامعة كانت تشعر بخوف مصحوبٍ بتوترٍ شديد, بسبب ضيق الممر نتيجة لانتشار الخيام حول المكان، وترى أنه ليس من اللائق بالنسبة لامرأة السير بين خيام مفتوحة أبوابها, يملؤها شباب ليس لديهم أي عمل, سوى النوم في الصباح, ومضغ القات بعد الظهر. حاضنة المظلومين يرى الكثير أن الساحة قامت بدورين متناقضين غيرا مشهد البلاد بالكامل, طيلة فترة وجود المخيمات فيها, أما الدور الإيجابي فيتمثل بنجاح ثورة 11 فبراير, وأما السلبي فيتمثل باستغلال فئة نزلت إلى الساحة مقصدها تحقيق مآرب تخدمها, عماد جسار. كاتب وناشط صحافي يقول: ل«الجمهورية»: أنه لم يكن هناك من داعٍ لبقاء المخيمات طيلة الأربع سنوات الماضية, عدا العامين الأولين من قيام الثورة،حيث قُدمت فيهما الأرواح رخيصة من أجل نيل الكرامة, أما بعد تلك الفترة, لم يبقَ داخل الساحة إلا من لديه أهدافه الخاصة, لأنه بحسب رأيه بعد انتخاب رئيس الجمهورية الجديد وتنازل الأول انتهى دور الساحة. وتعاطف جسار مع الشباب الذين ظلوا في الساحة إلى يوم إخلائها متخذين منها مسكناً وملجأ ..مناشداً الجهات المختصة بسرعة تعويضهم, ومشيراً إلى أنه في النهاية لن يصح إلا الصحيح؛ (إزالة المخيمات والحواجز وفتح الطرق), لكنه حذر في ذات الوقت من محاولة سعي أية قوة سياسية للعبث في البلاد؛ فبمجرد قيامها بذلك ستكون الساحة حاضنة تزلزل الفاسدين, وسيعود إليها الشعب وقتها بكل شوق وحنين. صفحة جديدة بعيداً عن المشهد الإنساني, إلى السياسة حيث من لها الأولوية دائماً, طالما الإعلام بارع في تأجيجها, فبمجرد استقرارها (السياسة) بحسب جزم الكثيرين؛ ينعكس ذلك الاستقرار على البلد اقتصادياً واجتماعياً, وفي هذا الصدد تحدث ل «الجمهورية» الدكتور محمد قيزان, مدير قناة سهيل قائلاً: إن رفع المخيمات تعد خطوة إيجابية نحو التوجه الصحيح لطي صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة في بناء المستقبل وتضميد الجراح, وشكر قيزان جماعة الحوثي على قبولهم إخلاء الساحة، كون ذلك بادرة طيبة منهم.. متصوراً أن إزالة المخيمات تم وفق اتفاق مسبق, مبني على السلم والشراكة, وتمنى قيزان أن يتبع ذلك خطوات أخرى إيجابية تترجم على أرض الواقع تتمثل في إزالة كافة التوترات من شوارع العاصمة, ورفع المليشيات المسلحة واستبدالها برجال الأمن. واختتم متفائلاً: إذا رفعت المخيمات وأخليت المدن من المليشيات واللجان المسلحة, لا شك أن الحياة ستعود إلى الناس من جديد, وستدب الحركة وسيأتي المستثمرين إلى البلاد, إذ لايمكن مزاولة أي عمل اقتصادي أو سياحي أو ثقافي, إلا إذا استقرت الحياة السياسية كونها عامل رئيسي لاستقرار البلد بشكل عام, وبالتالي فإن الإعلام في هذه الحالة سيتفرغ لتناول المواضيع التي تخدم الوطن والمجتمع بعيداً عن السياسة. مسلمات بصرف النظر عن رضا الكثير وحزن البعض على إزالة المخيمات, إلا أن الجميع مقتنع تماماً بإخلاء الساحة, على أمل أن تعود الحياة إلى المكان أفضل من ذي قبل, ولطالما كانت الساحة مكاناً للتعبير والتغيير, ستظل محجاً «للشعب» في حال اقتضت الحاجة لذلك, وللتذكير فإن المخيمات كانت قد نصبت في ساحة «الجامعة» إبان اندلاع ثورة 11 فبراير عام 2011م, بعد ساحة كانت قد سبقتها في «تعز» عرفت بالحرية, تلتهما ساحات في بقية المحافظات, هدفت جميعها إلى الاعتصام حتى تنحية رأس النظام السابق, وما إن تحقق ذلك؛ تم إزالة أكثر من نصف مخيمات «ساحة التغيير» طوعاً لا إكراه, عقب انتخاب رئيس الجمهورية الجديد, فيما تزامن إزالة ما تبقى منها بعد أيامٍ قلائلِ فقط من تشكيل الحكومة الجديدة ذات الكفاءات, وكانت هذه العملية الناجحة برأيي, تعد أول خطوة إيجابية للحكومة الجديدة, التي لم يمضِ على تشكيلها أسبوع من تاريخ إخلاء الساحة, وقبل ذلك لا يمكن أن يتحقق النجاح؛ إلا إذا حسنت نوايا الجميع للاتجاه نحو البناء والتنمية, ونشر ثقافة الإخاء والتسامح.