أم أسماء تذهب بأطفالها إلى المدرسة كل صباح، وتعود لأخذهم في نهاية الدوام، تتحدث بحرقة عن التأثير الذي خلفته الصراعات على أطفالها فتقول: «صحيح إن هذه الصراعات لم تؤثر على صحة أطفالنا جسدياً، لكنها أثرت على نفسياتهم، وأصبحت جماعات الموت في نظرهم أشبه بفيلم رعب، في مساء مظلم، وكابوس مزعج. وأضافت: أطفالنا لم يعودوا كما كانوا بالأمس يحلمون بعودة والدهم وهو يحمل في يده الحلوى والُلعب، بل أصبحوا يتساءلون: هل سيعود أبانا سالماً، أم ستطوله يد الغدر والخيانة ورصاصات جماعات الموت المسلحة التي تنتشر في كل زاوية وحارة وشارع؟ وتابعت: «لقد أصبح أطفالنا يشاركونا همومنا، بل صرنا نلمس في أعينهم العديد من التساؤلات وهي ماذا؟ وكيف؟ وهل؟ ومن هؤلاء المسلحين؟ وماذا يريدون ؟ ولماذا يحملون السلاح؟ ولماذا يقتل بعضهم بعضاً؟ واختتمت أم أسماء حديثها بالقول: «للأسف الشديد لقد تحولت تلك النظرات البريئة التي كنا نراها في أعين أطفالنا إلى نظرات كلها خوف وهلع مما سيحمله لهم المستقبل المجهول».! تخلف الحروب والصراعات عادةً الكثير من الكوارث، تتمثل بتلك الجرائم التي تُرتكب بحق الأبرياء، والتدمير الذي يلحق بالعمران والبيئة وغيرها، لكن أكثر نتائجها مأساوية هي ما يتعلق بما تتركه هذه الحروب والصراعات لدى الأطفال من آثار سلبية قد ترافقهم طيلة حياتهم، لتحفر في ذاكرتهم صوراً ومآسي ومناظر لاينسوها، تؤثر على صحتهم النفسية، وتسبب كثير من الآفات التي يصعب علاجها، تتحول إلى آفات نفسية مزمنة تلاحق الطفل أحياناً مدى الحياه. وبحسب علماء النفس، فإن الكبار أقدر على تحمل الصدمات من الأطفال، لذا فإن الحروب وما يصاحبها من أهوال ونكبات يكون أثرها النفسي أكبر بكثير على الأطفال، وهذا ما لايدركه الأهل في حينه، بل بعد تفاقم حالة الطفل النفسية، وتحول مشاعر الفزع والرعب إلى آفة نفسية مزمنة تحتاج للعلاج والمداواة لفترات زمنية طويلة، هذا إن لم يتم معالجته على الإطلاق، خصوصاً مع الوضع المعيشي المتردي الذي تعيشه كثير من الأسر اليمنية والتي تكون أيضاً إحدى انعكاسات الحروب والصراعات في كل البلدان ومنها بلادنا. عنف غير مألوف لدى الطلاب ! فائزة اليمني الاختصاصية الاجتماعية بمدرسة الشهيد سالم قطن الأساسية في أمانة العاصمة كشفت عن ظهور العنف لدى الطلاب بشكل غير طبيعي وتحديداً منذ بداية العام الدراسي، وتجلى هذا العنف لدى الطلاب في تعاملاتهم مع بعضهم البعض، حتى داخل الفصل الدراسي. وأضافت: لم نعد نرى أية طريقة للحوار لدى الطلاب، وأصبح العنف هو الوسيلة الوحيدة التي بدأنا نلاحظها بشكل غريب، حتى في المزاح والذي يتحول عادة إلى مشادات وعنف يصل إلى مرحلة نزيف الدماء والكسور التي نراها بشكل يومي بين الطلاب. ونوهت إلى اضطرار إدارة المدرسة إلى استخدام الوعيد للطلاب باستدعاء أولياء أمورهم، كونه أصبح الوسيلة الوحيدة لردع الطلاب، خصوصاً مع اللعب العنيف والفوضى التي أصبحت ظاهرة غريبة لديهم حتى داخل الفصول، والتي لا شك أنها انعكاسات للوضع الذي تمر به البلد. وتابعت: لقد أصبحنا نخشى على الطلاب من ظاهرة العنف من أن تتعزز لديهم وتصبح ثقافة لديهم عندما يكبرون، ولذا فإننا نعمل قدر الإمكان على الدخول المستمر إلى الفصول لتوعية الطلاب بمخاطر العنف، وأهمية الحوار وضرورة الاحترام فيما بينهم. واستطردت بالقول: ولعل الظاهرة الخطيرة التي بدأنا نشاهدها إضافة إلى العنف هو ظهور الفتور لدى الطلاب، وعدم الاهتمام بالتحصيل العلمي، وعدم وجود أية طاقة لديهم للجلوس في الفصول الدراسية وخصوصاً بعد الراحة إذ ندخل في كثير من الأحيان في مشادات مع الطلاب نتيجة محاولاتهم المستمرة الغياب والهروب من المدرسة. التأثير على المستوى التعليمي ! عبدالله فرحان مدير مدارس الرشيد الأهلية في أمانة العاصمة تحدث عن الأثار النفسية التي خلفتها الصراعات المسلحة في نفوس الطلاب قائلاً: هناك آثار نفسية غير مباشرة وجدناها لدى الطلاب تزداد بشكل غير مسبوق؛ نتيجة الخوف الذي أصاب الأطفال ،حتى أصبح الطلاب يُستثاروا سريعاً خصوصاً عند سماعهم طلقات الرصاص أو غيره, الأمر الذي يشعرهم بالخوف ويكون نتيجة هذا الخوف رد فعل غير طبيعي يتمثل بالهروب أو إطلاق أصوات مرتفعة وغيرها. مضيفاً: أكثر الآثار النفسية التي ترتبت على الطلاب في المدرسة تمثلت في حالات التبول اللاإرادي؛ نتيجة الخوف الدائم، ليس في المدرسة فحسب، بل حتى في البيوت كذلك كما يقول أولياء أمور الطلاب. مشيراً إلى أن هذا الخوف أدى إلى رفض البعض من الأطفال hلخروج حتى إلى الشوارع لممارسة الألعاب اليومية كما هي العادة، وهذا الخوف لم يعد خوفاً طارئاً، أي لحظي ثم يتوقف، ولكنه وصل إلى خوف مرضي، وهو الأمر الذي يترك أثاراً كارثية على مستقبلهم حد قوله. ونوه فرحان إلى أن نتيجة هذا الخوف تمثلت كذلك في التأثير على المستوى التعليمي للطلاب، كون الطالب يظل يفكر بشكل دائم بالعنف، وكذا ربط كل شيء يسمعه بأنها أصوات رصاص ومدافع، وأن كل شجار أو خلاف في الشارع أو المدرسة سيعقبه اطلاق رصاص وقتل ودماء وغيرها من الأشياء التي لا ينفك الطالب عن التفكير بها، نتيجة هذه الآثار التي تركتها الحروب والصراعات على الأطفال، وهو الأمر الذي يصرف انتباه الطالب من الدراسة والاهتمام بها وخصوصاً داخل الفصل المدرسي ويؤثر على تحصيلهم العلمي. واستطرد أن هناك بعض الطلاب هاجروا وبعضهم نزحوا من العاصمة وغيرها وتركوا مدارسهم، والبعض الآخر انتقل من مدرسة إلى مدرسة أخرى، مما أثر كذلك على مستواهم التعليمي.. مشيراً إلى أن أعراض الأطفال المتأثرين من الأحداث يظهر عادة «بفقدان الشهية» وهو الأمر الذي يولد لديهم تصور مستقبلي لما هو أسوأ، وستبقى هذه الأحداث في ذاكرتهم حاملة معها نظرة سوداوية للمستقبل، وهو الأمر الذي يترك آثاراً سلبية على مستواهم التعليمي كذلك. دور مدرسي وعن دور المدرسة في التخفيف من آثار هذه الأحداث على الطلاب، يقول وكيل مدرسة الرشيد: «نحن نحرص بقدر الإمكان في المدرسة على أن تكون البيئة التعليمية بيئة آمنه للطلاب، نعطي من خلالها رسائل إيجابية لهم، وإيحاءات بصورة مباشرة للتخلص من النظرة السوداوية التي قد تواجههم نتيجة هذه الصراعات، كما نعمل على تخصيص بعض الأوقات والحصص للجلوس مع الطلاب وتحديداً مع الاختصاصيين الاجتماعيين لإعطائهم الأمان، وحثهم على ممارسة الأنشطة المختلفة داخل المدرسة بمشاركة الطلاب والمدرسين لإبعاد أجواء التوتر الدراسي عنهم حد وصفه. وتابع: كما نقوم بدمج الطلاب المتأثرين مع أقرانهم من الطلاب غير المتأثرين لإبعادهم عن الخوف والاكتئاب والعزلة، الذي يصيب الطلاب المتأثرين بالأحداث، ولذا نحرص على إبعادهم عن العزلة قدر الإمكان، كما نحرص أيضاً على التواصل المباشر والمستمر مع أولياء أمورهم لنضع لهم الصورة الكاملة عن أبنائهم ليساعدونا في تقديم الحلول الناجعة لهم، كما أننا نحرص على إعطاء فرصة كبيرة للطالب لكي يعبر عما في نفسه سواء من خلال المشاركة داخل الفصل أو من خلال المشاركات الأخرى عن طريق الرسوم التعبيرية والتي تكشف مدى تأثر كل طالب، حيث يقوم البعض من الطلاب بالتعبير عن نفسه من خلال رسم القذائف والبعض برسم الرصاص بدلاً عن القلم وهذا كله تعبير لا إرادي من قبل الأطفال نتيجة الخوف وهذه كلها تأثيرات غير مباشرة. انهيار نفسي وعصبي! ويوضح أحمد السودي رئيس مؤسسة نهوض للدراسات الاجتماعية والتنمية أن الآثار التي تخلفها الصراعات على الأطفال تتمثل عادة بإصابتهم بحالات نفسية وانهيار عصبي، نتيجة المشاهد المروعة للعنف والقتل والدمار، وقتل أقاربهم وذويهم أمامهم، وللأسف يُستغل الكثير من هؤلاء الأطفال المصابين من قبل شبكات الإجرام تتمثل بتجنيد الكثير منهم، بل وإشراكهم في الصراعات والنزاعات المسلحة، وقد لوحظ هذا من خلال الأحداث التي كشفت أن أكثر جنود الجماعات المسلحة عادة هم من الأطفال، وأحياناً يتم تجنيدهم، والزج بهم في مناطق الصراع. ويؤكد أن واجب الدولة في المقام الأول إنشاء مراكز إعادة تأهيل الأطفال في مناطق الصراع، وإيوائهم وتعليمهم ومنع استغلالهم من قبل أية جهة كانت، وأن تعطيهم الرعاية الصحية والنفسية الكاملة، وكذا تأهيلهم وتعليمهم وتدريبهم، ناهيك عن حقهم في الحصول على الأمن والصحة وتوفير البيئة الملائمة للعب للتخفيف من هذه الأثار. انخفاض ثقافة الطفولة من جانبه يؤكد أحمد القرشي مدير منظمة سياج لحماية الطفولة أن الأطفال في مناطق الصراعات والنزاعات والحروب عادة هم الحلقة الأضعف في المجتمع وهم الأكثر تأثراً في أي بلد من الصراعات، والمشكلة أن هذه الإشكاليات أصبحت تتراكم ضد الأطفال في الفترة الأخيرة في اليمن، نظراً لانخفاض ثقافة الطفولة لدى لمجتمع، بل إنها شبه منعدمة أحياناً، الأمر الذي يؤدي إلى ثقافة عكسية، وخاصة فيما يتعلق بحقوق الطفل، فمثلاً في كل دول العالم، وفي كل الاتفاقيات الموقعة على حقوق الطفل ومنها اليمن أنه عندما يصل الطفل إلى عمر 18عاماً يصبح الولد رجلاً سواء كانت بنت أم ولد، أما نحن في اليمن ففي عمر10 12 سنة يصبح الولد رجلاً ويتحمل البعض منهم المسؤولية، أي أنه يتزوج ويعمل، وأحياناً يتم تهريبه، وهذه ثقافة خاطئة للأسف.. ويضيف القرشي: وإلى ماسبق فإن معدل الفقر والبطالة التي تبلغ نسبتها في اليمن بحسب تقرير البنك الدولي 60 % إضافة إلى 70 % من الأمية، كل هذه المشاكل جميعها أصبحت مشكلة متعددة الأوجه، ويضاف إليها النزاعات التي يتعرض فيها الأطفال للعديد من الانتهاكات الجسمية مثل تجنيد الأطفال، وأحياناً يكونوا في أعداد القتلى والجرحى والمهجرين أو ممنوعين من التعليم لأسباب مختلفة مثل احتلال المدارس من قبل المليشيات المسلحة أو استمرار الصراع وهو الأمر الذي يجعل الأطفال لا يصلون إلى المدارس للتعليم. ويؤكد القُرشي في ختام حديثه أن المشكلة في اليمن أنه لاتوجد لدينا مؤسسات دولة حقيقية تقوم بعمليات التأهيل والدمج لهؤلاء الأطفال الذين يتعرضون لهذه الانتهاكات أثناء الحروب، لأنه في كل دول العالم توجد مؤسسات متخصصة لرعاية الأطفال وتأهيلهم أثناء الصراعات، وهذه المؤسسات لا تتأثر بتلك الصراعات، لكن للأسف لا يوجد لدينا في اليمن أياً من هذه المؤسسات، كما أنه لا يوجد مؤسسات للدولة تقوم بتأهيلهم كما هو الحال في كثير من الدول وهو الأمر الذي يجعل الأطفال يتعرضون لكثير من الانتهاكات الجسمية. مشروع الدمج يعتقد الكثير من الناشطين والحقوقيين أن ثمة كثير من المشاكل التي لاتزال الطفولة تتعرض لها وأهمها عدم تفعيل القوانين التي أعطت حقوق الطفل كاملة، وبحسب الناشطة الحقوقية بشرى الحوثي ضابط مشروع الدمج في منظمة سول فإن منظمة سول قد قدمت مشروع مادة أساسية تعنى بحقوق الطفل وذلك ضمن مواد الشرطة اليمنية باعتبارهم المسؤولين الأولين عن الأطفال الذين يتعاملون معهم وخصوصاً الأحداث منهم حد وصفها. وتضيف زميلتها وهبة وهيب ضابط مشروع حقوق الطفل في منظمة سول للتنمية أيضاً أن أغلب مشاكل الأطفال التي يعانوها سواء في أثناء الأحداث أو غيرها تتم في أقسام الشرطة، لأنهم بحسب قولها عادة يتعرضون للاعتراف بعد ممارسة أنواع كثيرة من الضغوط، ولذا فإن مشروع دمج هذه المواد لدى مواد الشرطة سيساهم في تفعيل حقوق الطفل وتوفير كل احتياجاتهم وحمايتهم من كل الأضرار والمخاطر التي قد يتعرضون لها سواء أثناء الصراعات أو غيرها. أحلام وكوابيس مزعجة !! الدكتور: عبدالله طامش استشاري الطب النفسي لدى وزارة الصحة العامة والسكان يوضح أن الكثير من الآثار والأعراض هي التي تصيب الأطفال أثناء الصراعات والنزاعات المسلحة وأكثر تلك الأعراض تظهر على هيئة أمراض تسمى بالطب النفسي «اضطراب ما بعد الصدمة النفسية» Post Traumatic Stress Disorder –PTSD- وهي حالة تحدث للشخص بعد تعرضه لحادث كبير سواء كان (اصطدام سيارة يتوقع الموت فيها، التهديد بالقتل أو إطلاق الرصاص وإصابته أو إصابة بأعيرة نارية أو وقوع حادثة قتل أمامه ..الخ) بعد ذلك يشعر الشخص بعدة أشياء(ليس شرطاً أن يشعر بها المريض كلها) منها عودة مشاهدة الحادث بشكل متكرر ومزعج على شكل أفكار أو خيالات أو إدراك سمعي وبصري. ويضيف الدكتور طامش أن من الأعراض كذلك الأحلام المزعجة المتعلقة بالحادث، وضائقة نفسية شديدة عند رؤية أو الكلام عن ما يذكر الشخص بالحادث، كما أن الشخص يتجنب باستمرار كل ما يذكره بالحادث من كلام، أو أماكن أو أشياء تذكره بذلك، فرط التوتر العصبي(سرعة الانفعال، وزيادة ضربات القلب، وعدم القدرة على النوم بسهولة، إضافة إلى الشد العضلي والأوجاع. ويتابع الدكتور طامش أن من الأعراض كذلك «فرط الإرتكاسات المجفلة(ينقز بقوة عندما يطرق أحد ما الباب مثلاً، وينقز بقوة عندما يرن جرس الهاتف)، كما أن هذه الأعراض تظهر على شكل نقص الاهتمام أو الاستمتاع بأداء الأعمال اليومية وهو الأمر الذي يؤثر على المستوى التعليمي لدى الأطفال وخصوصاً في المرحلة الابتدائية الأولى. مشيراً أن الطفل كثيراً يظهر أثناء النوم أصوات وحركات تدل على معايشته لهذه الأحداث وتظهر على شكل كوابيس مزعجة جداً وقد يصرخ بقوة لدرجة أن يصحو والديه، وعندما يأتيان إليه يجدانه وقد صحى من النوم وعليه علامات الرعب والخوف والقلق الشديد. واختتم الدكتور طامش حديثه بالقول: يجب على الأبوين أن يبادرا لأخذ الطفل إلى الطبيب النفسي لكي يقوم بمعالجة الحالة حتى لا يتطور الأمر بشكل أسوأ ويؤثر على الصحة النفسية والعقلية بشكل يجعله يتدهور دراسياً واجتماعياً وقد يفشل في حياته عندما يكبر ويصبح شاباً أو رجلاً إذا لم يتم تدارك الأمر ومعالجته بأسرع وقت والحالة تستجيب للعلاج النفسي بشكل كبير، خاصة في الشهر أو حتى الأشهر الأولى من ظهورها على الطفل.