قوة عسكرية جديدة تثير الرعب لدى الحوثيين وتدخل معركة التحرير    لا وقت للانتظار: كاتب صحفي يكشف متطلبات النصر على الحوثيين    الحوثي يدعو لتعويض طلاب المدارس ب "درجات إضافية"... خطوة تثير جدلا واسعا    في اليوم 216 لحرب الإبادة على غزة.. 34904 شهيدا وأكثر من 78514 جريحا والمفاوضات تتوقف    استهداف الاقتصاد الوطني.. نهج حوثي للمتاجرة بأوجاع اليمنيين    لماذا تثير الدورات الصيفية الحوثية مخاوف اليمنيين؟    ولد عام 1949    الفجر الجديد والنصر وشعب حضرموت والشروق لحسم ال3 الصاعدين ؟    فرصة ضائعة وإشارة سيئة.. خيبة أمل مريرة لضعف استجابة المانحين لليمن    هموم ومعاناة وحرب خدمات واستهداف ممنهج .. #عدن جرح #الجنوب النازف !    منظمة الشهيد جار الله عمر تعقد اجتماعاً مع هيئة رئاسة الرقابة الحزبية العليا    بلد لا تشير إليه البواصل مميز    أمين عام حزب الشعب يثمن موقف الصين الداعم للشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة مميز    باذيب يتفقد سير العمل بالمؤسسة العامة للاتصالات ومشروع عدن نت مميز    دواء السرطان في عدن... العلاج الفاخر للأغنياء والموت المحتم للفقراء ومجاناً في عدن    لعنة الديزل.. تطارد المحطة القطرية    بعثات دبلوماسية تدرس إستئناف عملها من عدن مميز    منذ أكثر من 70 عاما وأمريكا تقوم باغتيال علماء الذرة المصريين    روح الطفلة حنين تبتسم في السماء: تأييد حكم الإعدام لقاتلها في عدن    القادسية يتأهل إلى دور 16 من كاس حضرموت الثامنة لكرة القدم    الخارجية الأميركية: خيارات الرد على الحوثيين تتضمن عقوبات    رئيس مجلس القيادة يكرّم المناضل محمد قحطان بوسام 26 سبتمبر من الدرجة الأولى    أنظار العالم تتجه إلى الرياض مع انطلاق بطولة رابطة المقاتلين المحترفين    تضرر أكثر من 32 ألف شخص جراء الصراع والكوارث المناخية منذ بداية العام الجاري في اليمن    اعتدنا خبر وفاته.. موسيقار شهير يكشف عن الوضع الصحي للزعيم ''عادل إمام''    الأسطورة تيدي رينير يتقدم قائمة زاخرة بالنجوم في "مونديال الجودو – أبوظبي 2024"    تصرف مثير من ''أصالة'' يشعل وسائل الإعلام.. وتكهنات حول مصير علاقتها بزوجها    الرئيس الزُبيدي يطّلع على سير العمل بوزارة الخارجية وشؤون المغتربين    "صحة غزة": ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و904 منذ 7 أكتوبر    5 دول أوروبية تتجه للاعتراف بدولة فلسطين    وفاة الشيخ ''آل نهيان'' وإعلان لديوان الرئاسة الإماراتي    امتحانات الثانوية في إب.. عنوان لتدمير التعليم وموسم للجبايات الحوثية    الدين العالمي يسجل مستوى تاريخيا عند 315 تريليون دولار    ريال مدريد يقلب الطاولة على بايرن ميونخ ويواجه دورتموند في نهائي دوري أبطال أوروبا    أسعار صرف الريال اليمني مقابل العملات الأجنبية اليوم الخميس    تصاعد الخلافات بين جماعة الحوثي وحزب المؤتمر والأخير يرفض التراجع عن هذا الاشتراط !    بعد وصوله اليوم بتأشيرة زيارة ... وافد يقتل والده داخل سكنه في مكة    جريمة مروعة تهز مركز امتحاني في تعز: طالبتان تصابا برصاص مسلحين!    قصر معاشيق على موعد مع كارثة ثقافية: أكاديمي يهدد بإحراق كتبه    سقوط نجم الجريمة في قبضة العدالة بمحافظة تعز!    قناتي العربية والحدث تعلق أعمالها في مأرب بعد تهديد رئيس إصلاح مأرب بقتل مراسلها    دوري ابطال اوروبا .. الريال إلى النهائي لمواجهة دورتموند    أحذروهم في عدن!.. المعركة الخطيرة يقودها أيتام عفاش وطلائع الإخوان    مدير عام تنمية الشباب يلتقي مؤسسة مظلة    لماذا تقمع الحكومة الأمريكية مظاهرات الطلبة ضد إسرائيل؟    استشهاد وإصابة 160 فلسطينيا جراء قصف مكثف على رفح خلال 24 ساعة    أجمل دعاء تبدأ به يومك .. واظب عليه قبل مغادرة المنزل    وزير المياه والبيئة يبحث مع اليونيسف دعم مشاريع المياه والصرف الصحي مميز    صفات أهل الله وخاصته.. تعرف عليها عسى أن تكون منهم    شاهد: قهوة البصل تجتاح مواقع التواصل.. والكشف عن طريقة تحضيرها    البشائر العشر لمن واظب على صلاة الفجر    البدعة و الترفيه    الشيخ علي جمعة: القرآن الكريم نزَل في الحجاز وقُرِأ في مصر    تعز: 7 حالات وفاة وأكثر من 600 إصابة بالكوليرا منذ مطلع العام الجاري    ها نحن في جحر الحمار الداخلي    في ظل موجة جديدة تضرب المحافظة.. وفاة وإصابة أكثر من 27 شخصا بالكوليرا في إب    تعز مدينة الدهشة والبرود والفرح الحزين    صحيح العقيدة اهم من سن القوانين.. قيادة السيارة ومبايض المرأة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حاربت نيابة عن الوطن امبراطورية لم تغب عنها الشمس؛ فتوقف الموت عندها، ولم يتعداها إلى منطقة أخرى، فكانت وطناً بحد ذاته، وكان حصنها ذاكرة لوطن
«حريب».. الذي أرعب الإنجليز..!
نشر في الجمهورية يوم 30 - 11 - 2014

لم تكن «حريب» مجرد منطقة حدودية رأت الموت بعيون المقاتلات الإنجليزية، وهي تلقي ببارودها وحممها على رؤوس المواطنين ومنازلهم، لكنها كانت وطناً صغيراً ينتمي إليه كل اليمنيين في الشمال والجنوب..، فيها واجهت الدبابة خنجراً، والطائرة بندقية، وواجهت الكرامة جيشاً منظماً، والاعتزاز بالأرض اعتزازاً بالقوة؛ فكان الجحيم..!
تعد حريب خط رجعة لأبناء الجنوب الفارين من الظلم والتنكيل الذي لحق بهم من قبل المستعمر، وعبر من خلالها العديد من المثقفين والسياسيين، الذين تصدوا للسياسات الاستعمارية في عدن والمحميات الأخرى، إلى مدن الشمال ك« صنعاء، تعز» وغيرها من المدن اليمنية، لمواجهة الاستعمار.استراتيجية
حين اشتد توغل الإنجليز باتجاه أراضي يمنية ؛لجأت «حريب» إلى استراتيجية بناء الحصون للدفاع عما تبقى من الأراضي ،فشيدت قبيلة (آل أبو طهيف ) حصن «جعدر»، بالتعاون مع عامل حريب «الكحلاني»، على قمة جبل سلعان المسمى «الحريبة» والذي يبعد عن حصن «نجد مرقد» حوالي 3 كيلو متر، الحصن الذي بناه أمير «بيحان» بإيعاز من الحاكم البريطاني، لضم أراضٍ جديدة تحت لواء الاستعمار، وهذا أزعج الإنجليز كونه يشكل خطراً شديداً عليهم، لارتفاع جبل «جعدر» عن محمية «بيحان»، حوالي 3000قدم.
وذكر عبد الله السقاف ،وهو ابن الشيخ عبدالرحمن السقاف ،شيخ قبيلة (آل أبو طهيف )، في كتابه (وثائق للتاريخ )؛ أن المستعمر لم يكن يتوقع أن يواجه مقاتلين كما في حصن «جعدر» ، وأيقن الإنجليز أن أمامهم عدواً شرساً، كان لابد أن يحسبوا له ألف حساب قبل أن يفكروا في التقدم على هذه الأرض التي صورت لهم بالأمر السهل، رغم الفارق الهائل في العدة والعتاد، بينه والأهالي، كون المحتل يملك من السلاح الثقيل مايمكنه من نسف مدن بأكملها، بينما كان يمتلك أصحاب الأرض عزيمة قوية ،ومعنويات مرتفعة ، كونهم يقاتلون في سبيل قضية عادلة، «تجدهم نشيطين، ومنطلقين في رؤوس الجبال كالصقور ،وكأن كل إمكانات الدنيا بمتناول أيديهم ،كان الإيمان يملأ قلوبهم ،فلا يعرفون الخوف».
إرهاب حقيقي
حين بدأ العمل لبناء حصن «جعدر» من قبل «آل طهيف»، كانت الطائرات الإنجليزية تحلق فوق الحصن نهاراً لاستفزاز العمال، ومنع عملية البناء، وهذا جعل المواطنون يلجأون إلى البناء ليلاً، فاحتشد الجميع للمشاركة في إنجاز البناء. رغم أن الحصن يقع في أعلى جبل «سلعان»، ويحتاج لمواد البناء من الخشب والأحجار من أسفل المنطقة ؛لكن دخول المستعمر في النزاع جعل من هذه العملية وطنية خاصة ،فاتفق الجميع على إكماله، ولم تمر سوى 15يوماً حتى اكتمل الحصن.
وحين عجز المستعمر عن إيقاف عملية البناء؛ كانت طائراته الاستكشافية تلقي بالمنشورات التحذيرية فوق الحصن «سيتم ضرب الحصن في تاريخ 2 سبتمبر 49»، لكن لا أحداً يكترث لذلك. لكن التهديد كان حقيقياً هذه المرة؛ فدوت أصوات الانفجارات على بعد 100 كم من سماء البيضاء ومأرب.. استخدمت فيها القنابل والصواريخ المحرقة، وتم تدمير حصن «جعدر» في الطلعة السادسة من ظهيرة ذلك اليوم، بحسب السقاف. وكان الجيش الإنجليزي البري، معداً سلفاً للانقضاض على الجبل واحتلاله بعد تدمير الحصن، من قبل المقاتلات البريطانية؛ لكن ما إن بدأ الهجوم البري حتى فوجئ الإنجليز بالاصطدام بالرجال المدافعين الذين كانوا قد انتشروا في أنحاء الجبل، فصدوا الهجوم، وعاد الإنجليز أدراجهم خائبين، فتمترس الرجال في قمم الجبال بدلاً من الحصن المدمر.
وعادت الطائرات لتحلّق على قمم الجبل من جديد، وبارتفاع منخفض هذه المرة، نتيجة لعدم وجود مضادات للطيران لدى المقاتلين من القبائل، الذين كانوا يطلقون عليها النيران من بنادقهم عند انخفاضها. وهو ما يوحي بالمأساة التي كانوا يعيشونها، جراء قدوم هذه الطائرات، وذكر السقاف عن شهود عيان؛ أنهم شاهدوا الطائرات في مطار عدن تلك الأيام ،وعليها آثار طلقات جراء رمي القبائل.
السلاح الغريب
على ثقافتهم القديمة بالسلاح؛ صعق المقاتلون في «حريب» لرؤيتهم للمرة الأولى، سلاح كبير بحجم سيارة ،يتنقل من مكان إلى آخر ،ويحدث دماراً هائلاً، لدرجة أنهم لم يستطيعوا إيقافه، جربوا كل الأسلحة لكن ذلك لم يفلح، واستخدم الإنجليز هذا السلاح، أثناء مرورهم في الأماكن التي يسيطر عليها المقاتلون، وهو ما ولد الكمد في قلوبهم لدرجة أنهم تساءلوا مراراً؛ كيف تعجز «البوازيك» و «الصواريخ» و«مضاد للدروع» و«الألغام» عن تدميره؟
كان هذا السلاح (دبابة)، وكانت بريطانيا حينها، ثاني قوة عالمية تمتلك مثل هذا السلاح، مقابل سلاح تركي (جرمل) يعود للعام 1914م يملأه الصدأ، في أيدي المقاتلين، فكيف لدولة مثل اليمن الشمالي التي عزلها الإمام أحمد عن العالم، أن تمتلك أدنى فكرة عن هذه المدرعات، ناهيك عن السلاح الذي يدمرها، وكان الإنجليز مستعينين بهذه الدبابات يصرون على استخدام الطريق إلى أماكن نفوذهم، كونها كانت الطريق الوحيد آنذاك قبل أن تشق طريق «مبلقة»، كما كانت القبائل مصممة على عدم فتح الطريق للمستعمر مهما كان.
الحاجة أم الاختراع
حين استمر التمادي الإنجليزي على الأماكن التي يسيطر عليها المقاتلون، كان لابد للمقاتلين في «سلعان» من إيقاف هذه الدبابات بأي ثمن. وبعد استنفاد كافة الوسائل، جاءت فكرة السلاح المضاد؛ «الخندق»؛ فكرة إسلامية، توحي باستمرارية التاريخ الإسلامي، ورجوع الجيل الجديد إليه، في أصعب المواقف.
بدأ المقاتلون بالحفر، وتم العمل على ورديتين ليلاً ونهاراً دون وهن أو تعب، وقد صمموا بطريقة قاطعة على عدم السماح للدبابات بالعبور مهما كان الثمن، وذكر السقاف، أنه بعد اكتمال حفر الخندق الذي تم إنجازه في أقل من شهر؛ زادت معنويات القبائل، وتمكنوا أخيراً من إيقاف الدبابات، حتى السيارات كان لا يسمح لأحد بالمرور، إلا بتصريح، واستمرت الأمور على تلك الحالة، حتى جاءت سنة 1956م، لتتجدد المشاكل باكتشاف البترول لدى الطرفين، فقد اكتشف البترول في اليمن بصافر، واكتشفه الإنجليز في ثمود و بيحان. ومن هنا كانت الحاجة لطريق «حريب» لمد أنابيب النفط ، من ثمود إلى البريقة بعدن ،فعادت المعارك من جديد.
ساعة الصفر
يرجعنا السقاف إلى اللحظات الأولى للمواجهة ؛ «تقدمت القوات الإنجليزية، في صباح 30 ديسمبر 56، بدباباتها ومدرعاتها، وتقدمتها الجرافات لشق الطريق، وردم جزءاً من الخندق، كونه كان خالياً من الرجال سوى الحراسة ،وفتحت القوات منفذاً من الخندق ولم تتمكن من تأمين الطريق بالحراسات كون المقاتلين من آل أبو طهيف قد وصلوا وضربوا حصاراً على القوة البريطانية. حاولت القوة فك الحصار لكنها لم تستطع.
وفي المساء حاول قائد القوة الإنجليزية «آرنست كنيدي» العودة إلى «بيحان»، لكنه حين شعر بالكمين صاح لمرافقيه، العدو العدو.. بلغة عربية مكسرة، ولاذ بالفرار، لكن الكمين أمطرهم بوابل من الرصاص، وأصيب هذا القائد بجراح، إذ قطعت يده اليمنى، وحمله مرافقوه العرب على أكتافهم وأعادوه إلى قواته المحاصرة، حينها أمر هذا القائد المصاب بتوجيه فوهات مدافع قواته على من أسماهم العدو، واستمر القصف بشكل عشوائي حتى الصباح، وعندها استلم المهمة سلاح الجو البريطاني، الذي قصف المنطقة طوال النهار، وكانت من الأيام العصيبة الصعبة إذ لم يغب الطيران عن سماء المنطقة طوال النهار، وفي عدن وبيحان كانت الاستعدادات جارية لفك الحصار عن قواتهم المحاصرة ولتدمير قرية سلعان، وبدا العد التنازلي لساعة الصفر التي حددها قادة الإنجليز، ويجهلها قادة القبائل.
أيام عصيبة
أسراب من الطائرات، قنابل محروقة، صواريخ، وفرق برية مجهزة لاجتياح المكان بالآليات والدبابات.. هذه هي الصورة التي كانت عليها «سلعان» أثناء بدأ المعركة، لا أستطيع أن أرسم هذه الصورة حتى بمخيلتي، فكيف بها على الواقع.
ينقل لنا السقاف (ابن المنطقة) صورة المعركة؛ صبيحة 13 يناير 1957، بدأ الهجوم البريطاني من سلاح الجو الذي يملأ المكان ضجيجاً ،وصاحبت أصوات الطائرات أصوات القنابل والصواريخ ،التي أمطرت بها المنطقة بشكل عشوائي وهستيري لم يسبق له مثيل، حيث استخدمت في الهجوم القنابل المحرقة على قرية سلعان بالذات ،واستمرت طلعاتها المتواصلة لأكثر من ساعتين ،عندها بدأ الهجوم البري وفقاً لخطة الإنجليز. وبدأ القصف المدفعي.
وتحدث السقاف عن التحام بطولي، ومعارك ضارية بين القبائل والعدو، لكني لا أستطيع أن أفهم كيف تحرك المقاتلون، في ظل امتلاء الجو بالطائرات والقنابل والصواريخ؛ لكنها الروح الثائرة كفيلة بصنع أحداث وتحقيق النصر، لكن هذا النصر كان له ثمن.
«دارت معارك ضارية سجل بها القبائل ملحمة لا تنسى في جبين التاريخ، وعند الساعة الثالثة عصراً تقهقر الجيش الإنجليزي، وما لبثت أن ظهرت الطائرات في الجو مرة أخرى وكانت قنابلها أشد فتكاً وتدميراً، عندها شب حريق هائل ومدمر في القرية وأشعلت القرية عن بكرة أبيها، بحيث ابتعد عنه الطرفان، وكانت المنطقة خالية تماماً في ذلك اليوم الرهيب من الجانبين، عدا الطيران الذي لا يزال يجوب سماء المنطقة، بعد أن أصاب الحصن إصابة مباشرة، واندك الحصن ودُمر نهائياً.
لا يستطيع أحد أن يتخيل ما الذي فعلته الطائرات، بجثث السكان، كما لم ينقل لنا السقاف ذلك، ولا حتى حجم الدمار الذي أحدثته الطائرات بالمنازل، وكم كان عدد المنازل حينها، ناهيك عن عدد الشهداء من الأطفال والنساء الذين واجهوا الموت بعيونهم قبل أجسادهم، ورغم ذلك فجهده لا يقل جهداً عن المقاتلين، كونه حمل على عاتقه البحث عن هذه الوثائق.
حين لم يكن بمقدور القوات البريطانية إنهاء عزيمة المقاتلين أعلى الجبل، طلبت تعزيزات جوية من قاعدتها في الكاميرون، واشتركت بالفعل في معركة «سلعان» باعتراف الضابط الإنجليزي «أريك ماكرو»، وهو ما يوحي لنا بالرعب والخوف الحقيقي الذي أحدثه مقاتلي آل طهيف بالقوات الإنجليزية.
شاهدت الدمار
يقول الصحفي الأمريكي، ومندوب وكالة «الإسوشيتدبرس» في الشرق الأوسط /المستر والتروين، الذي زار المنطقة أثناء المواجهات في 15/2/1957 م ،ضمن الوفد الصحفي العالمي ؛في الطريق إلى «حريب» شاهدت آثار هذه الحرب، قرى بأكملها دمرتها الطائرات عن أخرها، بيوت أصبحت أطلالاً وخرائب، جرحى يئنون في الطريق العام، وعلى مدى البصر كان البريطانيون يروحون ويغدون في مدرعاتهم، ويضيف:
الأمريكي الذي يشترك مع الإنجليز في اللغة، كان منصفاً وهو يعرض مأساة «حريب»، وكأن الموت الذي عايشه وزملاؤه جعلهم ينقلون لنا الألم في حروف؛
حين اقتربنا من «حريب»، أصم آذاننا دوي مدافع «المورتر» والبنادق الاتوماتيكية، فترجلنا من السيارة الجيب التي كانت تقلنا، ورحنا نسير بين الشجيرات القليلة في الصحراء متخفين بها، وطالعنا في الطريق جريح يتفصد الدم من جنبه وهو يئن في طلب الماء، وحمله أحد المواطنين إلى قريته، ولكن أنى له ذلك أن يجد العلاج، فليس هناك أدوية، ولا ضمادات، ولا أطباء، وفي قرية «أبو طهيف» بالقرب من حريب، رأينا جريحاً أخر يرقد على الأرض ،وقد غُطي بجلود الماعز، لقد حاصرته نيران البريطانيين وأصابته في بطنه وذراعيه، وقادنا أبناء القرية في جولة بقريتهم المنكوبة، فإذا مبانيها قد تحولت إلى ركام ،بل لقد أصبحت القرية نفسها قاعاً صفصفاً بعد أن هجرها أهلها هرباً من غارات الطائرات البريطانية التي لا تنقطع..!
مشكلة اللاجئين
مراسل وكالة «الاسوشيتدبرس» في الشرق الأوسط، لم يكتفِ بنقل الألم فحسب، فتعداه إلى مأساة أخرى لاتقل أهمية عنها، وهم اللاجئون الذي أجبرتهم الممارسات التعسفية الظالمة من قبل المستعمر على مغادرة الجنوب؛ «في حريب دعانا محافظها إلى داره الأنيقة النظيفة، لنلتقي بتسعة من أبناء المحميات لجأوا إلى اليمن هرباً من حكم البريطانيين، بعضهم لجأ إليها قبل 20 عاماً، وبعضهم الآخر لم يلجأ إليها إلا منذ أسبوع، ودل ما سمعناه من أفواه هؤلاء الرجال أن هذه الفتن ليست بنت اليوم، بل ترجع إلى حقب طويلة، لكنها اشتدت في الآونة الأخيرة.. قال أحد هؤلاء اللاجئين أنه ترك قريته «عين» لأنها أشد قرى الحدود تعرضاً للخراب، فإن نصفها داخل حدود اليمن، ونصفها الآخر داخل المحميات البريطانية..! وقال آخر:«إنني أكره البريطانيين».
إن هؤلاء الرجال التسعة ليسوا إلا نموذجاً لسبعة آلاف عربي هجروا المحميات البريطانية إلى اليمن فراراً من الحكم البريطاني، وعدد كبير منهم يعيش الآن في حريب ،التي يبلغ تعدادها نحو 2500 نسمة ،والتي تتعرض هذه الأيام لغارات البريطانيين المتعاقبة.
رهبة الموت
ينقل لنا الصحفيون الذين كانوا بأرض المعركة، صور تدمي القلب، أوردها السقاف في «وثائق للتاريخ».
يقول محمد جلال، الذي رأى الموت على حقيقته، بمنطقة «حريب»، لمجلة التحرير المصرية؛ «كانت النار لا تزال تشتعل عندما وصلنا هناك، لنرى جسداً أسمر شديد السمرة أصابته طلقة في بطنه، فسقط جريحاً في النزع الأخير، وظلت الطائرات البريطانية تطارده، وتلقي القنابل الحارقة والصاروخية على أشجار الدوم حتى حرقت عن آخرها، وأحطنا بالمصاب نحاول أن نلتقط بضع كلمات ،لكننا لم نسمع سوى الشيخ السقاف يصيح، «مات الرّجال ،قتلوه الإنجليز، والله ما نسّلم لو نموت كلنا».
كان المصاب يهمس والدم يتدفق على الرمال الساخنة، وتفوح منه رائحة غريبة، وكان الجرحى يتوافدون، منهم من يستطيع السير، ومنهم من يستند على صاحبه ليسير خطوات، لقد سيطرت علينا جميعاً رهبة الموت، وكنت أفكر في هذا الشعب الذي يبادر وليس لديه طلقة واحدة يذود بها عن نفسه، أين الضمير العالمي؟ لماذا لم تقم الدنيا ولم تقعد لهذه الإبادة ؟
وهمس الجريح (أشهد إلا اله إلا الله)، ثم أسلم الروح، وصاح السقاف، شيخ قبيلة آل طهيف، مات العربي، مات ولن نُسّلم قدماً من أرضنا للإنجليز ،ومددت يدي لأغطي جراح أخي، وجراحي، ورفعت يدي وهي تقطر دماً ساخناً و قد لمست الخيط كله، وعرفت أنه لن ينتهي.
وتيرة القتل
الصحفي حمدي فؤاد، رصد لنا عملية القتل التي كانت تحدث بين لحظة وأخرى، وكأن كل طلقة تردي شخصاً، من كثرة أعداد القتلى الذين كانوا يسقطون يومياً، كما رصد ثبات المقاتلين حتى اللحظات الأخيرة في مواجهة المستعمر.
سمعت بأذني ،رجلاً يسقط وهو يقول «قتلوني الإنجليز»، كما سمعت رجلاً أخر يقول لشيخ المنطقة وهو يحتضر، «أذكر لأهلي أنني أموت بسلاح الإنجليز، وتنطلق رصاصة ثانية ويسقط رجل أخر يقف بجانبنا، ويزداد انطلاق النار ويزداد عدد القتلى، لينتهي اليوم بعشرات القتلى والجرحى، واليمنيون يردون على الإنجليز بالمثل، وعندما تغرب الشمس تتوقف الاعتداءات، لأن المدن اليمنية الأمامية تبيت في الظلام الدامس خوفاً من الطائرات.
يضيف: سمعت أصوات بنادق رشاشة ومدافع خفيفة، وشاهدت طائرة بريطانية تُحلق فوق رؤوسنا، ووقفت في الأرض الفسيحة مع بعض الأهالي المسلحين نرقب الموقف، سمعنا صوت طلقة، وجاء أحد الأهالي يقول: مات الرجل، والتفتنا إلى الخلف فوجدنا رجلاً يموت، بعد أن أصيب في صدره.
سوابق
لعنة التشفي الذي يخلفه الإنجليز بعدهم ،يُفسر لنا الخراب والدمار الذي أوقعته القوات الإنجليزية بمنطقة «سلعان» في فلسطين أوجدوا صراعاً مريراً بين اليهود والمواطنين، كما فعلوا في عدن، وفعلوا ذلك في العراق أيضاً، لكن الخبث والحقد الأكبر حين أنشأوا دولة يهودية في قلب الوطن العربي، بعد انسحابهم من فلسطين، إمعاناً للتنكيل بالشعوب التي تقاومهم، ولا ننسى الاقتتال الدامي بين ليبيا ومصر على الحدود التي أمعن الاستعمار في تحوليها إلى بؤر صراع في المنطقة بعد رحيله ،حدث هذا أيضاً في اليمن، وكان نتيجته اقتتال دامي بين الشطرين.
يقول الصحفي حمدي فؤاد: «ليس هناك حدود حقيقية بالمعنى الصحيح، وليس هناك جنود أو جيش يمني ،كما ليس هناك ميدان قتال، فشيخ القرية قائدها، وشباب القرية جنودها، والبنادق العتيقة سلاح الجميع، ويقف الأهالي يحمون أرضهم، وتبدأ القصة صباح كل يوم، طائرة بريطانية تحلّق فوق رؤوس الأهالي على ارتفاع منخفض جداً، ويطلق الأهالي النار على الطائرة، لتبدأ الطائرة في إلقاء القنابل، ورغم أنها صغيرة إلا أنها تكفي لحرق البيوت الريفية التي يسكن فيها الأهالي، كانت بريطانيا تكتفي بطائرة واحدة أو اثنتين، لإخضاع منطقة ما ،لكن الاستطلاعات ترجع أن حروب إنجلترا لهذه المناطق التي تعود للشمال، كان هدفها حماية أنابيب النفط التي كانت تمر عبرها قادمة من ثمود، حيث تم اكتشاف النفط هناك، وإرساله من خلالها إلى معمل التكرير في عدن .
الأرض المحروقة
سياسة «الأرض المحرقة» هو العنوان الأبرز الذي تخرج به القوات الإنجليز من أية دولة، وكأن هذه الامبراطورية لم تفهم سوى لغة القتل والدمار عبر التاريخ.
مملكة «الكومنولث» التي لم تغب عنها الشمس، كانت تغيب مناطق بأكملها، باستخدام طائراتها الحديثة الصنع، التي لا تتورع في ارتكاب المجازر، وكأن كابتنها رجل آلي..!، لكن الغريب في الأمر؛ حين لجأ هذا الكابتن لنحر مئات الجمال في منطقة.. بعد أن لجأ إليها السكان احتماءً من حمم الطائرات، كيف نظر كابتن الطائرة لهذه الجمال، ولماذا لجأ لقتلها، فهل طبيعة الإجرام أعمت بصائرهم في قتل الحيوان الذي يشرعون له الحقوق أم أنها شراهة القتل لا أكثر. مثل هذه الأفعال تحتاج إلى محلل نفسي، ليكشف لنا الحقيقة. لكن جرائمهم بحق «سلعان» ،تكشف لنا سياسة الانتقام التي لجأوا إليها، فكيف لنا أن نتذكر الجمال، والقرية بأطفالها ونسائها وكهولها، ومنازلها أصبحت أنقاض.. يحدث هذا حين يموت الضمير، ويستيقظ وحش الانتقام.
يقول السقاف: أن الحريق استمر إلى 25 يناير، حوالي 12 يوماً ، وكان الضباط الإنجليز يشاهدون القرية تحترق من أعلى جبل «جعدر» الذي احتله الإنجليز سابقاً، وأخذتهم نشوة الانتصار، فاخذوا كاميراتهم لأخذ الصور التذكارية، ومشوا على الأقدام حتى وصلوا أمام بوابة الحصن، لكن الرجال الذين خرجوا من كمين جوار القرية انقضوا عليهم انقضاض الأسود ،و أمطروهم بوابل من الرصاص ؛حتى تطايرت كاميراتهم مع دمائهم على تراب «سلعان» الغالي ،وامتزجت الدماء بالتراب مكونة كتل ترابية استمرت لفترة طويلة.
رابط المقال على فيس بوك


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.