قديم عرفه البابليون والفراعنة، فقد كان أحد الأمراض الشائعة التي تصيب غالبية الناس وخاصة الشباب، حتى إنه اعتقد قديماً لدى بعض المجتمعات أن الشاب الذي يصاب بهذا المرض صار رجلاً مكتمل الرجولة بسبب خروج قطرات من الدم مع نهاية البول. هذا هو مرض البلهارسيا الذي ظل مجهولاً على مر العصور القديمة حتى اكتشفه العالم (تيودور بلهارس)، فسمي باسمه، وكان ذلك في القرن التاسع عشر، حيث اكتشف في جثة أحد الموتى في كلية الطب بمدينة الإسكندرية، ولم يكن معروفاً - قبل هذا الاكتشاف - السبب المباشر لهذا المرض. وبطبيعة الحال، يوجد نوعان من ديدان البلهارسيا الطفيلية، أحدهما بولي يضع بيوضة في المثانة البولية مُتسبباً بخروج قطرات من الدم في آخر البول، وآخر معوي يضع البيوض في المستقيم لتطرح مع البراز، لكن كلاهما خطير يفضي في حال تأخر العلاج ووصوله إلى الحالة المزمنة التي قد تمتد إلى سنوات طويلة إلى مضاعفات وأضرار تدميرية بالجسم تقود لا محالة إلى الوفاة إذا ما فشل علاجها في المرحلة المتقدمة أو النهائية للإصابة المزمنة. يصنّف مرض البلهارسيا من مسببات سرطان المستقيم والمثانة البولية، ويعد مسؤولاً عن بعض حالات الفشل الكلوي والتليف الكبدي. بينما السبب الأبرز الذي يقود إلى الوفاة بسبب هذا المرض إنما يعود إلى تمدّد الوريد البابي للكبد باتجاه المري على هيئة دوالي، وثم مع زيادة ضغط بيوض البلهارسيا على الوريد البابي الكبدي وتمدّده كثيراً، وبعد مدة من بدء هذه المشكلة ينفجر في المري مسبباً نزيفاً شديداً يقود إلى الوفاة. تعتبر البلهارسيا من الأمراض الضالعة في خلق مشاكل اقتصادية واجتماعية وتعليمية وصحية فإصابة فرد ووصوله إلى المرحلة المزمنة قد يعني الكثير. ذلك لأن البلهارسيا سبب أكيد - بحسب إجماع الأطباء - في مشكلة تدني الإدراك الذهني وضعف التحصيل الدراسي بالنسبة للأطفال بوجهٍ عام، وباعتباره يؤدي إلى سوء التغذية وفقر الدم والهزال لهذه الفئة بشكل أكثر بروزاً؛ فذلك من دواعي التسبب بإضعاف المناعة الطبيعية لجسم الطفل بما يجعله عرضة أكثر من غيره للإصابة بالأمراض المعدية، ثم أنه في مرحلة الشباب لا يمتلك ذروة الطاقة والنشاط المعهود عند الشباب، وكثيراً ما يُقعسه المرض عن الوظيفة والعمل أو يسبب له عجزاً كاملاً بسبب شدة المضاعفات والأضرار الشديدة المترتبة على الإصابة المزمنة للبلهارسيا، ما يمثل خسارة كبيرة لمجتمعه وبلده بسبب تدني مستوى الإنتاجية الاقتصادية. بينما ينعكس وضعه الصحي المتدهور بشدة نتيجة الإصابة بالبلهارسيا على الوضع المعيشي لأسرته وأولاده، بل ويشكل - حينئذٍ - عبئاً كبيراً نتيجة تزايد الإنفاق على الأدوية وعلى الرعاية المكثفة التي يتطلبها والتي قد لا تجدي كثيراً بمعية المعالجة عند تقادم الإصابة المزمنة ووصولها إلى مرحلة حرجة وخطيرة. كل هذه السلسلة من المعاناة بالوسع تلافيها بإجراء بسيط من خلال المسارعة إلى الطبيب مع عمل فحص للبول أو البراز تبعاً لنوع الآلآم أو العلامات التي تظهر عليه ولو بشكلٍ أقل حدة أو طفيفاً من أجل التأكد مما إذا كان مصاباً بالبلهارسيا، كل ذلك بمجرد توافق أعراضٍ اجتمعت عليه أهمها: خروج دم في نهاية البول على هيئة قطرات يثير أحياناً حرقة تتباين شدتها من شخص لآخر، وهذا يعطي مؤشراً قوياً يفرض - بالضرورة - على المريض إجراء فحصٍ لعينة من آخر البول لأجل الإثبات القطعي أو نفي وجود الإصابة بالبلهارسيا البولية. ولو ظهر الدم خاصةً مع آخر البراز قد يعني أن هناك إصابة بالبلهارسيا المعوية لا يتم تأكيدها إلا بفحص عينة من البراز. في حين أن هناك أعرضاً أخرى للبلهارسيا تبدأ عموماً بعد ثلاثة أشهر من الإصابة، أي بعد انتهاء فترة الحضانة، وعندها يشكو المريض من (حمى، قشعريرة، تصبّب العرق بغزارة، حساسية في الجلد، ألم البطن، فقر الدم وزيادة في عدد كريات الدم البيضاء خاصة (كريات الأزونوفيل). وقد لا تدلل هذه الأعراض أو تبعث على الشك بمعزلٍ عن خروج دم في آخر البول أو البراز، وإن لم تظهر بوضوح أي من الأعراض التي ذكرتها، فالأمر يعود إلى أن البلهارسيا قد لا تتسبب بأعراضٍ حادة لجميع الحالات، أو أنها تظهر - أحياناً - طفيفة بشكلٍ لا يثير قلق بعض المصابين لا سيما من يجهلون خطر هذا النوع من الأمراض، فيديرون ظهورهم غير مبالين بالمرض، أو أنهم لا يلتفتون إلى العلاج وإن ثبتت وتأكدت إصابتهم بهذا الداء. من جهة ثانية، قد يقع بعض الأطباء في الخطأ ليس تشخيصياً وإنما إجرائياً، وذلك عندما يغفلون عن إرشاد المصاب - متى ثبت بالفحص الطبي إصابته بالبلهارسيا- إزاء طبيعة هذا المرض وخطورته وأهمية التزام المريض بتناول العلاج بالمعيار الطبي المحدد، وكذلك عن توضيح مجمل أسباب الإصابة بهذا المرض، وكذلك أهمية معاودة الفحص الطبي مرة ثانية بعد تناول المصاب للجرعة الأولى المضادة للبلهارسيا بأسبوع كامل للتأكد مما إذا كان العلاج قد قضى تماماً على البلهارسيا، أو أن المرض ما يزال موجوداً، فتعاد جرعة العلاج مرة أخرى، وهكذا يُعاد الفحص مرة ثالثة ثم رابعة أو أكثر، ومع كل فحص يؤكد تعذر القضاء على البلهارسيا يُتبع بجرعة العلاج المحددة من قبل الطبيب وفق جدول زمني لمواعيد الفحص والعلاج متعارف عليه طبياً، وما يعنيه استعصاء القضاء على البلهارسيا بجرعة أو اثنتين أو ثلاث جرعات من العلاج المضاد لهذا الطفيلي أن الإصابة بالمرض قد مر عليها وقتاً قد يكون طويلاً بعض الشيء يمتد إلى شهورٍ طويلة أو عدة سنوات. لا مراء في أن معرفة المسببات والعادات والسلوكيات الضارة التي تقف وراء الإصابة بالبلهارسيا وتزايد عدد حالات المراضة، هي بمثابة السبيل الأفضل والأكثر جدوى لقطع دابر هذا المرض، شريطة التزام الجميع بنمط صحي في تعاملهم مع المياه العذبة الراكدة والبطيئة الجريان كغلي الماء لنصف ساعة - على الأقل - قبل استعمالها بشكل مباشر، فليس من سبيل يُمكِّنَ هذا المرض من الوصول ببيوضه إلى المياه لكي يؤدي دورته التكاثرية طالما حُوفظ على المصادر المائية ولم يعمد البعض من المصابين إلى التبرّز أو التبوّل فيها أو على مقربة منها، وهو ما ينكره ديننا الحنيف باعتباره من قبائح الأعمال، فقد ورد عن نبي الهداية لهذه الأمة الداعي إلى الحق المبين (صلوات ربي وسلامه عليه) قوله: “ اتقوا الملاعن الثلاثة،البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل” رواه أبو داوود. ولأن اليمن - بطبيعة الحال - متعددة في مصادرها المائية العذبة وخصوصاً الراكد منها والبطيء الجريان مثل مياه (البرك، السدود، الحواجز المائية، الجداول، السواقي، قنوات الري والمزارع التي تروى بالغمر)، فإن البدائل التي تؤمن مياهاً صحية صالحة للشرب والاستخدام البشري لمختلف الأغراض، إنما يشكّل تحدياً كبيراً في الوقت الراهن، في ظل صعوبة التضاريس وشحة المياه وتأخر أو تعذر مواصلة عجلة التنمية المجتمعية المؤمنة في الأرياف - بالذات - مشاريع مياه نظيفة وآمنة. فبمجرد الالتماس المباشر للإنسان بالمياه العذبة غير الآمنة سواءً الراكدة أو البطيئة الجريان في المناطق الموبوءة بالبلهارسيا، فإن هذا يجعل هذا داء البلهارسيا دائم الانتشار بشكلٍ مستمر، حيث ينتشر- عادة - في مثل هذه البيئة المائية الطور المعدي للبلهارسيا نتيجة التلوث الحاصل والمستمر الذي تتعرض له والذي يتسبب به البعض من المصابين من خلال البول أو البراز، وبهذه الكيفية تنتقل بيوض البلهارسيا إلى الماء، ولا تلبث كثيراً حتى تفقس، وبعد عدة أطوار للمرض داخل المياه يخرج في الأخير طور خطير يعرف ب (السركاريا): وهو الطور المعدي للبلهارسيا الذي يخرج من قوقع مائي شائع انتشاره في مصادر المياه العذبة المختلفة؛ يطلق عليه (قوقع القرنانة)، وذلك بعد أن يكون المرض قد أكمل دورته التكاثرية داخل هذا القوقع المائي، فتندفع بذلك أسراب الطور المعدي بأعدادٍ هائلة بالملايين؛ تجوب المياه باحثةً عن جسم إنسان يسبح أو يغتسل أو يؤدي أيٍاً من الأعمال في هذه المياه، ولو مغموراً بقدميه فقط أو إحداها من دون ارتداء حذاءٍ بلاستيكي عازلٍ للمياه، وحينها يعمد هذا الطور المعدي ذو الطرف الأمامي المدبب إلى اختراق الجلد من خلال الأجزاء الرخوة وصولاً إلى الدورة الدموية، ومنها إلى الكبد للتزاوج وبدء الدورة التكاثرية التي تمكن الأنثى من إنتاج البيوض، فتغادر بعد ذلك وصولاً إلى الشعيرات الدموية للأغشية المبطنة للأمعاء الغليظة أو المثانة البولية لتضع بيوضها - بحسب نوع طفيلي البلهارسيا - وبهذه الكيفية تكتمل حلقة الإصابة بالمرض مؤمّنةً أسباب البقاء لهذا الداء الطفيلي، وهذا يعتبر مثالياً في الأرياف خاصة في فصل الصيف بخلاف المدن التي تشح فيها تلك المصادر المائية الذي ذكرتها آنفاً. إن تنفيذ حملات وطنية للتخلص من البلهارسيا في اليمن لن يكفي بمعزلٍ عن ترسيخ القيم والسلوكيات الوقائية، باعتبارها مقياس النجاح لبلوغ هدف التخلص من البلهارسيا والقضاء عليها، لكنه لا يتأتى منع الإصابة ووقف انتشار المرض إلا بالالتزام بتدابيرها الوقاية وإجراءاتها، إلى جانب المعالجة. ومن المهم هنا أن نشير إلى أن حملة وطنية لمكافحة البلهارسيا ضمن مرحلتها الأولى تنفذ من8 - 11 ديسمبر 2014م)، وتمثل مسعىً طيباً باتجاه احتواء مشكلة البلهارسيا وتقويض انتشارها، حيث تستهدف هذه الحملة معالجة المصابين بالبلهارسيا باستثناء الحوامل والمصابين بفشل كلوي أو بتليف في الكبد ووقاية غير المصابين من عموم المواطنين صغاراً وكباراً، ذكوراً وإناثاً من عمر (6 سنوات فما فوق)، البالغ عددهم نحو (5,5ملايين) مواطن وذلك في (78) مديرية متفرقة ذات وبائية عالية بالبلهارسيا، بأربع عشرة محافظة؛ تشمل (تعز، أبين، عمران، إب، المحويت، الضالع، ريمة، ذمار، لحج، صعدة، حجة، صنعاء، حضرموت الساحل، الحديدة). إن الخدمة العلاجية التي تؤمنها هذه الحملة الوطنية إنما تقدم من خلال المرافق الصحية والمدارس ومواقع المعالجة المؤقتة، ولا تقتصر فقط على علاج البلهارسيا، بل أن ثمة علاجاً آخر مضاداً للديدان الطفيلية الشائعة المنقولة بالتربة تعطى لجميع المستهدفين في سائر المديريات المشمولة بالحملة. على أن يتناول الجميع - بلا استثناء - الطعام جيداً قبل التوجّه لتلقي المعالجة كي تؤتي ثمارها الطيبة، مع العلم بأن العلاجين آمنان، وليس من أضرار قد تصيب أي إنسان إذا ما تناول كلاهما، إذ يتم تناولهما عن طريق الفم متبوعاً بكوب ماء لتسهيل البلع، كما أن مقدار الجرعة الدوائية يتم تحديدها بناءً على قياس طول الجسم؛ بما يضمن حصول كل موطنٍ من (6سنوات فما فوق) في المديريات المستهدفة على الجرعة الملائمة والكافية بالمعيار المحدد. المركز الوطني للتثقيف والإعلام الصحي والسكاني بوزارة الصحة العامة والسكان