هنالك أزمة ثقة عامة في ظل الظروف العربية والعالمية الراهنة، التي تحكمها إما نظرية المؤامرة، وإما حسابات الأجندات الخاصة . وفي ظل مثل هذه الظروف التي يكتنفها الغموض، يجد المثقف نفسه إما أسير الخوف والتردد ما يدفعه للابتعاد عن كل من الثروة والثورة، وإما أنه وبحكم ثقافته يكوّن لنفسه شرنقته الخاصة، أو أيديولوجيته الفكرية المتفردة، التي يتحكم هو بها وفي الوقت نفسه يحتكم لها . إن الأنظمة الشمولية التي حكمت المنطقة العربية، وبالتالي المثقف العربي بسطوة الحديد والنار لعقود من الزمن، راكمت في وعي المثقف كراهية للسلطة ونفوراً منها، كذلك تسلق الوصوليون والانتهازيون على مقاعد الأحزاب المعارضة، وضعف برامج تلك الأحزاب، وافتقار المعارضة عموماً للتنظيم، ناهيك عن عدم تقديم المعارضة على مدار الأعوام، لحلول ناجعة أو نتاج فكري ثري وغني بالمفردات المجتمعية الإصلاحية، وقلة خبرتها وضحالة مخرجاتها، كل هذا أدى بالمثقف لأن ينأى بنفسه عن صفوف المعارضة . إن نأي المثقف العربي عن مكونات المجتمع بطرفيه النقيضين، السلطة والمعارضة، جاء من جراء تراكم الخيبات التي رزح تحت كلاهما المثقف على مدار عقود ولا يمكن للمثقف في أي حال من الأحوال أن ينضم إلى أتباع السلطة وأذنابها في ظل السلطات الديكتاتورية الفاسدة، وإلا فقد احترامه لذاته كمثقف، ومصداقيته أمام مجتمعه . . كذلك في ظل انهماك المعارضة إما بالسعي وراء الاستحواذ على السلطة، أو بالتناحر حول أسباب وإشكاليات سطحية متضاربة بعيدة كل البعد عن الهدف الأساسي من وراء المعارضة، ما يؤدي إلى تشتيت الجهود، وبعثرة الأهداف، وفقدان البوصلة، وضياع الوجهة الأصلية . . لا يمكن للمثقف الواعي الأصيل أن ينضوي تحت تلك الراية خاصة مع دخول أجندات خارجية ومصالح خاصة وحسابات شخصية في صفوف المعارضة . إن ظاهرة المثقف المستقل "صحية"، لأنها تحاول الاعتدال في التوجه، والوسطية في الطرح، إلا أنها قد تكون ظاهرة سلبية عندما يقف المثقف المستقل على مسافة من بقية التوجهات بما فيها السلطة والمعارضة، وكذلك المثقفون المستقلون الآخرون ما يؤدي إلى ضعف في الأداء وعجز عن تحقيق التقدم، ذلك أن المستقل يحتاج إلى مستقلين آخرين يتقارب وإياهم بالفكر والرؤية، وإن اختلف معهم بالأسلوب والآلية، حتى تتوحد الجهود في طريق واحد، بعيداً عن التخندق وراء مداهنة السلطة أو ركوب موجة المعارضة . إن الثقافة التي تحكم العقل والوعي العربيين ما زالت غير قادرة على استيعاب ثقافة الاختلاف، وعاجزة عن قبول الآخر المختلف، ما يجعلنا كمثقفين مستقلين غير قادرين على التواصل بشكل سليم وحيادي ومنطقي وبناء، حتى مع المستقلين الآخرين . ويبقى الخوف والتردد، وانعدام الصدق وفقدان الثقة، والغرور والتعنت والجمود، أسياد الموقف المهيمن على كيفية التعاطي مع القضايا الثقافية والفكرية والوطنية والقومية على ساحتنا العربية . حتى يتمكن المثقف من رسم أقداره بخطى ثابتة عليه أن يتحلى بالنزاهة والمرونة والثقة والإرادة، وأن يتمسك بالحق والمنطق والحكمة، ويخلع عنه أوزار الخوف والتردد والتعنت والجمود والتملق . د . آية الأسمر