لا يستطيع أحد أن يحدد ما يمكن أن تصل إليه العلاقات الإنسانية، وخصوصاً تلك التي يكون المراد منها الارتباط والزواج، ولعل الخطبة هي البداية المنطقية لمشروع الزواج، لكن هذه الخطوة قد تأتي بنتائج سلبية فيكون مصير العلاقة الفشل، ليقوم الإنسان بتكرارها مع شخص آخر، لكن ومن خلال حياتنا اليومية نسمع قصصاً لأشخاص عادوا إلى من كانت تربطهم بهم علاقات سابقة، فما سبب هذه العودة؟ رهام سيفو "تدرس العلاقات الدولية"، عن تجربتها في هذا المجال تقول: "تقدم ابن جيراننا لخطبتي، لكني رفضته نظراً للفارق في المستوى التعليمي الذي يفصلنا، فأنا أدرس العلاقات الدولية وهو يحمل الشهادة الثانوية فقط، وبعد مدة قصيرة تقدم لخطبتي شاب من عائلة محترمة ويحمل شهادة عليا في الاقتصاد، وتمت الخطبة وبعد سنة من الخطبة تفاقمت المشكلات بين أهله وأهلي، وهذا الأمر انتقل بطبيعة الحال إلى العلاقة التي تربطنا، فحصل شجار ما بينه وبين أبي تبادلا خلاله الشتائم وانتهى الأمر بالانفصال، وبعد مدة ليست بالطويلة عاد ابن جيراننا وتقدم لخطبتي مرة ثانية، وفي هذه المرة قبلت الارتباط به وتزوجنا، واليوم أعيش معه بسعادة ورزقت منه بطفلة جميلة ملأت عليّ حياتي، وترى رهام أن قبولها بمن رفضته في السابق يرجع إلى حالة النضج التي وصلت إليها، وتضيف: خلال تجربتي الأخرى توضحت لي الأمور وبت أنظر للحياة بشكل مختلف بعيداً عن المظهر، ورحت أبحث عن جوهر الناس، وقد وجدت في زوجي طيبة لم أكن أعرفها من قبل لأني كنت أسعى لتحقيق أحلام تراود كل فتاة في مقتبل العمر، فضلاً عن الإصرار الذي وجدته من قبل زوجي، رغم رفضي له في البداية لكنه أصر على التقدم لخطبتي مرة أخرى، وهو أمر جعلني متأكدة من حبه لي . والموقف نفسه تقريباً تكرر مع رجاء علي التي تعمل معلمة وتقول: "كانت تربطني علاقة مودة مع ابن خالتي، لكن الأخير وبسبب ظروفه المادية لم يتمكن من الارتباط بي، فما كان مني إلا أن قبلت الارتباط بشاب يعمل في سلك الشرطة بعد أن تقدم لخطبتي بشهور قليلة، ولم نستطع الاستمرار نظراً للتدخلات الكثيرة التي كانت تحدث من قبل الأهل والتي أثرت في علاقتنا سلبياً فانفصلنا، وما هي إلا شهور قليلة حتى تقدم ابن خالتي لخطبتي، وبالفعل وافقت عليه، ولكن لأسباب عدة لم أجد في ابن خالتي ذلك الشاب الذي استطيع العيش معه طوال حياتي المقبلة، وكانت تجري في داخلي مقارنات بينه وبين خطيبي السابق، ودائماً ما كان خطيبي السابق يتفوق في الأمور الإيجابية، ورغم حالة عدم الاقتناع التي أعيشها لم أتمكن من مصارحة خطيبي بما أشعر به، ولم أمتلك الجرأة الكافية لأخذ قرار الانفصال، خصوصاً أنها المحاولة الثانية بالنسبة لي، بقيت على هذه الحال إلى أن التقيت خطيبي السابق في إحدى المناسبات الاجتماعية، وهناك أعرب عن رغبته في العودة للارتباط بي، وبعد صراع طويل مع نفسي قررت أن أتخذ القرار وانفصل عن خطيبي الثاني والعودة إلى الأول"، وتشير رجاء إلى أن الكثيرين ممن حولها استهجنوا هذه الخطوة، والجميع فسرها على هواه، لكنها لم تنصت إلى ما يقال أبداً، بل أخذت القرار الذي تراه مناسباً، وتضيف: "قد لا يتفهم الكثيرون هذه الخطوة التي اتخذتها وخصوصاً في مجتمعنا الشرقي، وكل راح يفسر الخطوة على هواه، حتى وصل الحد ببعضهم إلى أن اتهمني بأفظع الاتهامات، لكني لم ألق بالاً إلى ما يقال واتخذت ما أرى فيه سعادتي المستقبلية، فأنا وجدت أن خطيبي الأول هو الأقرب إلي من حيث التفكير والتصرف، وهي أمور ضرورية للاستمرار، وأنا اليوم متزوجة ولدي طفلان، كما أن خطيبي الثاني ارتبط بفتاة تناسبه وهما بحسب ما علمت يعيشان حياة سعيدة، وما زال بالنسبة لي ابن خالتي الذي أكن له كل الاحترام" . ويقول محمود الصايغ "يعمل في شركة تجارية كبرى": "عندما وصلت إلى سن مناسبة ووجدت في نفسي القدرة على الزواج، وتقدمت لخطبة ابنة عمي التي وجدت فيها الصفات التي كنت أبحث عنها، وبالفعل تمت الخطبة وما هي إلا شهور قليلة حتى اتيحت لي فرصة عمل في دولة الإمارات لم أفوتها، ويبدو أن البعد بين الخطيبين يولد نوعاً من الفتور في العلاقات، كما أنه يعيق الوصول إلى حل سليم للمشكلات التي تطفو على السطح، وهذا ما تعرضت له ليتعمق الخلاف بيني وبين خطيبتي إلى أن تم الانفصال"، ويشير الصايغ إلى أنه وبعد الانفصال حاول البحث عن فتاة يرتبط بها، وقد ظن نفسه قد وجد ما كان يبحث عنه، ويضيف: "تعرفت إلى فتاة من عائلة محترمة وتمت الخطبة، ولكن الأمور لم تجر كما كنت أتوقع فوضعي المادي لم يكن يرضي خطيبتي الجديدة التي شعرت بأنها تسرعت بالارتباط بي، فطلبت مني الانفصال، هنا راجعت أفكاري وجلست مع نفسي لساعات طويلة أحاسب نفسي على الأخطاء التي ارتكبتها، وبعد أن وصلت إلى القرار النهائي، اتصلت بوالدتي لكي تمهد لي العودة لابنة عمي خطيبتي السابقة، وأحمد الله أن عمي وابنته لم يمانعا وتمت الخطبة والزواج بسرعة، وأنا اليوم أعيش معها حياة هانئة وقد رزقت منها بطفلين" . ويقول عبد الهادي وردة، محاسب في شركة عقارية: "كنا صغاراً عندما انفصل والداي، وبما أني كنت في سن الثالثة عشرة فانتقلت للسكن مع والدي برفقة أخي الذي يكبرني، فيما بقيت أختي الصغيرة تحت رعاية والدتي، مرت الأيام وتزوجت والدتي من رجل آخر، وبعد سنوات عدة لم نشعر بالاستقرار بالرغم من محاولة والديّ أن يعوضانا من خلال الزيارات المتكررة للبيتين، ومن خلال التنسيق المشترك الذي كان يجري بينهما، إلى أن شاءت أقدار الله أن يتوفى زوج أمي نتيجة مرض أصيب به، وهنا تحقق الشرط الشرعي الذي يسمح بعودة ارتباط والداي، وبالفعل وبعد تشجيع منا نحن الضحية الأولى في هذا الحدث، عاد والدي لأمي واجتمع الشمل من جديد" . ويرى عبد الهادي أن مثل هذه الحالات كان بالإمكان أن تتكرر كثيراً لو توافرت بعض الشروط، ويضيف: "بغض النظر عن الشرط الشرعي الواجب توافره في مثل هذه الأحداث، يتطلب الأمر وعياً من كلا الطرفين بأهمية العودة للأبناء، كما أن مثل هذه العودة بحاجة إلى مقدار عال من الشجاعة التي تسمح للفرد بنقد ذاته والاعتراف بأخطاء الماضي . ويعترف محمد أشرف النبهان، وهو طبيب مخبري، بأنه يشعر بالندم لعدم قدرته العودة لخطيبته السابقة، ويقول النبهان: قد يكره الكثيرون الاعتراف بأخطائهم، لكني أحاول ألا أكون منهم، فأنا أعترف بخطئي بأن قرار انفصالي عن خطيبتي كان قراراً خاطئاً ناتجاً عن رؤية ضيقة، فبعد خطبة دامت ما يزيد على عام حاولت خلالها أن أكون الطرف المسيطر في العلاقة وأن أكون صاحب الكلمة الفصل في كل القرارات، وهذا ما لم تتقبله خطيبتي فانفصلنا، وبعدها حاولت الارتباط بفتاة أخرى لاكتشف أن زمن الرجل الشرقي قد انتهى، وأن سلطة الطرف الواحد لم تعد مقبولة، وطبعاً لم أفكر بالعودة إلى خطيبتي السابقة، لا لأني لا أرضى التراجع، بل لأنها ارتبطت بشخص آخر وهي الآن متزوجة . ويعتقد النبهان أن السبب الأهم في عدم عودة الأشخاص للارتباط ببعضهم بعضاً بعد تجربة فاشلة هو الموروث الاجتماعي السلبي، ويضيف: في أغلب الأحيان وبعد انفصال شخصين، يقوم المحيطون بهما بتعميق الفجوة وإفشال أي محاولة للعودة، وكثيراً ما نسمع الأم تقول لابنها غدا سأزوجك أفضل منها، وبأنها لا تستحق، والشيء نفسه يحدث في الطرف المقابل، إذ تسمع الفتاة عبارات كثيرة من قبيل، ما الذي كان يعجبك فيه، وغداً ستجدين أفضل منه . حول موضوع تحقيقنا تقول الدكتورة شذا الفايز، الخبيرة في الشؤون الاجتماعية: إن ما يميز الإنسان السوي هو تغيير التوجه والتفكير بين حين وآخر بحسب ارتقائه على السلم التعليمي أو الاجتماعي، فالإنسان العاقل الرزين لا يقبل بالفكر الجامد، بل يبحث عما يجعله مواكباً للتطور الاجتماعي والثقافي المستمر، هذا الأمر يؤدي إلى اختلاف منظور الإنسان بالقضايا التي تدور من حوله وبالعلاقات التي تربطه مع الناس، فصديق اليوم قد يصبح خصماً ومن ثم يعود صديقاً، والشيء نفسه ينطبق على العلاقات الزوجية، فقد يبدأ شخصان بعلاقة ارتباط يختلفان ثم ينفصلان وقد يعودان للارتباط من جديد في حال اعترفا بأخطائهما، واستطاع كل منهما استيعاب الآخر، وترى الفايز أن الفشل في العلاقات الإنسانية يكون ناتجاً عن قلة وعي وخبرة حياتية لدى الطرفين، فكل طرف يحلم بالمثالية ويبحث عن مواصفات تكون أقرب إلى صفات الملائكة منها إلى صفات البشر، وأي نقص يظهر يؤدي إلى الانفصال، فالشاب أو الفتاة في بداية حياتهما لا يرضيان إلا الكمال والكمال لله وحده، وتضيف: عندما يتقدم الشاب لخطبة فتاة يريدها جميلة ومتعلمة ومتفهمة وربة منزل وموظفة ومتفانية وهادئة يكتشف فيما بعد أنها ليست كما يحب، فيقرر البحث عن أخرى وهكذا إلى أن يكتشف أنه ليس هناك إنسان كامل، والأمر نفسه يحصل مع الفتاة أيضاً، وترى الفايز أن وسائل الإعلام كان لها دور كبير في خلق هذا النوع من الضعف الفكري لدى الجيل الجديد، وتقول الفايز: ما يعرض هذه الأيام في التلفاز من علاقات غاية في الشاعرية والرومانسية ومثال ذلك المسلسلات التركية، يجعل الجيل الناشئ يبحث عن هذا المستحيل، وهو الأمر الذي يؤدي إلى ارتباطات فاشلة، وتؤكد أنه لا عيب في العودة إلى إحياء العلاقات السابقة، فهي تصرف ينم عن فكر متفتح وعقل واع، وعندما يحاسب المرء نفسه ويعترف بخطئه ويحاول إصلاحه يكون على الطريق السليم، فكما هناك صلح ما بين الأخوين والجارين والصديقين يجب أن يكون هناك صلح ما بين الخطيبين والزوجين المنفصلين، ولكي يتم هذا الأمر يجب توافر وعي عميق من أصحاب العلاقة المباشرين ومن المحيطين بهم، فالرجل عليه أن يتفهم المرأة وكذلك المرأة عليها أن تتفهم الرجل، وعلى المحيطين أن يشجعوا هذه الخطوة لما لها من أثر إيجابي في المجتمع من خلال تقوية أواصر المحبة .