السيد يسين أبادر بالقول إن اليوتوبيا تعني المدينة الفاضلة التي حلم بإقامتها في عالم الواقع فلاسفة ومفكرون متعددون منذ البدايات الأولى للفكر الفلسفي. واليوتوبيا تعني مجتمعاً مثالياً يتسم بسمات مرغوبة ويقوم على مبادئ نموذجية. ولعل أول مشروع يوتوبي سجله التاريخ هو كتاب "أفلاطون" الشهير "الجمهورية" Republic، وكان يتضمن في جزء منه حوارات وفي الأجزاء الأخرى تصورات خيالية لمجتمع مثالي. وهذا المجتمع كما تصوره "أفلاطون" ينبغي أن يصنف المواطنين إلى فئات متمايزة وفق بنية طبقية جامدة. وهذه البنية تتضمن طبقة ذهبية وطبقة فضية وطبقة برونزية وطبقة حديدية، وفق معايير اجتماعية واقتصادية. والطبقة الذهبية ينبغي أن تخضع لبرنامج تربوي لمدة طويلة قد تصل إلى خمسين عاماً وذلك لإنتاج ما أطلق عليه أفلاطون "الملوك الفلاسفة". وحكمة هؤلاء الملوك تقتضي أن يبذلوا كل جهدهم لاقتلاع جذور الفقر والقضاء على مظاهر الحرمان، وذلك بالتوزيع العادل للموارد، على رغم أن "أفلاطون" لم يحدد الوسائل التي تكفل تحقيق هذه الأهداف النبيلة. والبرنامج التربوي الذي سيعد الحكام لتولي مسؤولياتهم هو صلب المشروع المثالي الذي صاغه "أفلاطون" في الجمهورية. وفي العصر الحديث برز كتاب "توماس مور" الشهير الذي نشره بعنوان "يوتوبيا" والذي صور فيه مجتمعاً مثالياً، وقد تبنى عدد من الاشتراكيين اليوتوبيين هذه الصورة المثالية باعتبارها خطة استراتيجية قابلة للتطبيق في المجتمع المعاصر. غير أن الفكر الغربي لم ينفرد بالحديث عن "اليوتوبيا" من خلال صياغة أعمال فكرية تصور مجتمعات مثالية، ذلك أن الفكر الإسلامي من خلال الفيلسوف الشهير"الفارابي" أسهم إسهاماً بارزاً في هذا المجال بكتابه الشهير "المدينة الفاضلة". وكان "الفارابي" عالماً مبرزاً وفيلسوفاً ذاع صيته في العصر الذهبي للإسلام، وله إسهامات بالغة الأهمية في الكيمياء والمنطق والموسيقى والفلسفة والطبيعة وعلم النفس. ول"الفارابي" شرح مهم على متن أرسطو، كما أنه -على غرار أفلاطون- صاغ في كتابه المشهور "المدينة الفاضلة" ملامح أساسية لمجتمع مثالي، ونص فيه على أن الدين هو المعبر الصادق عن الحقيقة، وعلى غرار "أفلاطون" قرر أن مهمة الفيلسوف توجيه الدولة، غير أنه "أسلم" فكرته على أساس أن الدولة المثالية ينبغي أن يحكمها "النبي- الإمام" بدلاً من "الملك الفيلسوف" الذي اقترحه "أفلاطون"، وكان يرى أن الدولة المثالية كانت هي دولة "المدينة" التي أسسها الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، والذي كان يتلقى الوحي عن الله سبحانه وتعالى. ويبقى السؤال: لماذا وصفنا السيناريو الرابع من بين السيناريوهات التي وضعها مشروع "مصر 2020" عن "الاشتراكية الجديدة" باليوتوبيا؟ لذلك عدة أسباب. أولها على سبيل القطع الاتجاه الإيديولوجي لكل من الدكتور "إسماعيل صبري عبدالله" والدكتور "إبراهيم العيسوي"، الذي يتمثل في تبني الماركسية كنظرية ومنهج للتحليل السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وعلى رغم الموضوعية العلمية لهما، التي ظهرت في تصور سيناريوهات مختلفة منها سيناريو "الرأسمالية الجديدة" وسيناريو "الدولة الإسلامية"، وهذه السيناريوهات تتعارض كلية مع اتجاههما الإيديولوجي، إلا أنهما وفريق البحث آثرا إتاحة الفرصة للعصف الذهني أن يأخذ مجاله بمناقشة كل الاحتمالات وجميع نماذج الحكم المتصورة. غير أن الموضوعية العلمية المطلقة قد تكون مثالاً يصعب تحقيقه. والدليل على ذلك أن الاقتصادي السويدي الشهير "جونار ميردال" سبق له في سبيل حل مشكلة الموضوعية والذاتية في العلم أن صاغ تعريفاً رائعاً مبناه أن "الموضوعية هي أن تعلن ذاتيتك منذ البداية"! وحتى لو لم يبرز الباحث ذاتيته، أو بعبارة أخرى اتجاهه الإيديولوجي، فإن القارئ المدرب يستطيع اكتشافه من منهج الباحث الذي تبناه، ومن مصطلحاته ومفاهيمه التي اعتمد عليها. غير أن هناك سبباً آخر لاستخدامي مفهوم "اليوتوبيا" لوصف سيناريو الاشتراكية الجديدة. وذلك لأن أغلب المفكرين الماركسيين في العالم صدموا صدمة عنيفة من أهم حدث تاريخي في القرن العشرين، وهو انهيار الاتحاد السوفييتي قلعة الشيوعية المنيعة، الذي أراد قادته تطبيق الماركسية كإيديولوجية رسمية وطبقوها بطريقتهم. وقد أدى هذا الانهيار بفلاسفة الرأسمالية وفي مقدمتهم "فرانسيس فوكوياما" صاحب الكتاب الشهير "نهاية التاريخ" أن يزعموا أن الماركسية سقطت إلى الأبد، في حين أن الرأسمالية انتصرت وستكون هي دين الإنسانية -إن صح التعبير- إلى أبد الأبدين! وإذا كان بعض الماركسيين قد رفضوا فكرة سقوط الماركسية بصورة عاطفية، إلا أن عالماً اجتماعياً ماركسياً هو "رونالد آرنسون" في كتابه المهم "ما بعد الماركسية" هو الذي استطاع -بناء على صياغة معرفية محكمة أن يقول إن الماركسية لم تسقط وإنما سقط مشروعها الراديكالي لتغيير العالم، وعلى الماركسيين المبدعين في كل مكان أن يبدعوا مشروعاً راديكالياً جديداً يراعي روح العصر، وفي مقدمتها ظاهرة العولمة بأبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية. وفي تقديرنا أن مشروع "مصر 2020" حين طرح سيناريو "الاشتراكية الجديدة" لم يأخذ في اعتباره بالقدر الكافي الأسباب العميقة لانهيار دولة الاتحاد السوفييتي، والتي كشف عنها بشكل مبدع أحد كبار المفكرين السوفييت ممن شاركوا عديداً من الرؤساء السوفييت في عملية صنع القرار، وهو "جورجي آرباتوف" في كتابه الفريد "النظام" وله عنوان فرعي دال هو "نظرة من الداخل للسياسة السوفييتية". ويبقى وقد طالت إلى حد كبير مقدمات المقال أن نورد وصف مشروع "مصر 2020" لسيناريو "الاشتراكية الجديدة". يقول المشروع إن "المدخل الفكري إلى هذا السيناريو يتلخص في تقديم مشروع اشتراكي جديد بالاستناد إلى الدروس المستخلصة من الخبرات السابقة في بناء الاشتراكية. ومصدر التمايز هنا هو أن إعادة توزيع الثروة والدخل وإذابة الفوارق بين الطبقات (من خلال التأميم والأشكال الأخرى للملكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج وليس بالضرائب فقط) ضروري لتعظيم الفائض الاقتصادي المطلوب للتنمية من جهة، ولتحقيق العدل الاجتماعي اللازم لحشد طاقات الجماهير الشعبية من أجل التنمية من جهة أخرى. ويعتبر التراكم الرأسمالي والمعرفي محددين رئيسيين للتقدم في هذا السيناريو ومن هنا فإن السعي للعدل الاجتماعي يصطحب بدرجة عالية من التقشف، كما أن السعي للتقدم الاقتصادي وبناء القدرة التنافسية محكوم بإعطاء أولوية كبرى للتعليم والبحث العلمي والتطوير التكنولوجي". ولعل القارئ -في ضوء هذا النص الكاشف - يدرك لماذا وصفت هذا السيناريو باليوتوبيا، لأنه ببساطه محاولة لإعادة إنتاج سياسات الدولة الناصرية في الستينيات التي اعتمدت على التأميم وفشلت، وعلى فرض التقشف ولم تنجح. لماذا؟ لأننا نعيش في عصر العولمة التي تقوم على مبادئ الليبرالية الاقتصادية التي لا تقبل وضع القيود الحديدية على رجال الأعمال، كما أن الجماهير ليست مستعدة للتقشف لأن العالم -مهما كانت صحة هذا الاتجاه أو خطؤه- يعيش عصر الاستهلاك الوفير!