خلال العصر الحديث غدت المفاهيم والأسس العلمية المستقاة من تجارب الشعوب السابقة ومن الثورات والتاريخ المسكون بالآلام تؤطر على الواقع الجديد بعد استلهام تلك التجارب، للتقليل من عناء ومآسي الإنسان بما سار واندثر، وبما ساد وباد. بحكم أن الإنسان يحلم دوما بالسعادة والخير والمساواة والحرية وغيرها. بدأت الخيرية في الإنسان تأخذ شكل الأفكار الطوباوية فانتشرت باعتبارها تلبي طموح البشر وتجلب التفاؤل في مستقبل إنساني أفضل، بدأها الفيلسوف اليوناني أفلاطون في مدينته الفاضلة في القرن الرابع قبل الميلاد، وإن كانت بدائية التقسيم للمجتمع باعتبار الفلاسفة حكاماً والناس سادة وعبيداً، لكنها بداية في تراكمات التراث الإنساني وفي التفكير بمستقبل السعادة للإنسان، وفي القرن العاشر الميلادي طور الفيلسوف المسلم الفارابي هذا الحلم السياسي في مدينته الفاضلة أيضا، والتي أقامها على قيم دينية وأخلاقية. إلى نهاية القرون الوسطى في بداية القرن السادس عشر الميلادي، ألّف الفيلسوف الإنجليزي توماس مور كتابه في وصف رحلة إلى "اليوتوبيا" يعني المكان الذي لا حدود له، الأفضل والأجمل "للصالح العام وللجزيرة اليوتوبية". وبعد قرن من ذلك قدم الفيلسوف الإيطالي كامبانيلا إلى محاكم التفتيش على كتابه "مدينة الشمس"، رغم طوباويته إلا أن له دوراً مهماً في تطور الأفكار الاجتماعية، وحتى صياغة الاشتراكية الطوباوية، وهكذا برزت أفكار سان سيمون وبعض الفيزوقراطيين والطوباوية الاشتراكية في فرنسا، إلى أن ظهرت نظرية الاشتراكية العلمية وربما لا تبتعد عن أفكار الطوباوية الاشتراكية، إلا أن التعديل الذي أحدثه ماركس وانجلز على نظرية هيجل الجدلية ومثالية فورباخ سميت بالاشتراكية العلمية بناء على ربطها بالاقتصاد وبالواقع وإحداث تقسيم اجتماعي جديد يعتمد البروليتاريا الطبقة الأساسية فيها من أجل مقاومة السيطرة البرجوازية والحد منها، فكانت تعارض الاقتصاد الحر وحرية السوق إيمانا منها بسعادة الطبقة العظمى في المجتمع (الفقيرة)، في مواجهة نظرية التطور الرأسمالي. والضبط الحاد في النهج الاشتراكي أدى إلى انهيار هذه النظرية فيما لم يحدث تطوير لهذه النظرية بعد مارس ولينين، وبسبب التنافس بين المنظومتين قامت الحرب الباردة وانقسم العالم إلى فريقين، دول تتبع النظام الرأسمالي، ودول تتبع النهج الاشتراكي. بغض النظر عن صحة النظريتين المتصادمتين آنذاك. لقد كان الشمال كدولة يتبع النهج الرأسمالي، والجنوب كدولة يتبع التوجه الاشتراكي، وحدثت خلال العقود الأخيرة من القرن الماضي تبدلات وتغيرات مذهلة في التطور العلمي الاقتصادي والتقني وفي المجال السياسي، حيث انهارت النظرية الاشتراكية، وبدأت السيطرة القطبية على العالم وتعاظمت وزهت الإمبريالية بانتصارها على الاشتراكية، وقالوا بنهاية التاريخ وصدام الحضارات (هنتنجتون، وفوكوياما)، وتصورت الإمبريالية الأمريكية ومعسكرها الرأسمالي أن اقتصاد السوق والعولمة المكتسحة للاقتصاديات الصغيرة وللثقافات المتعددة للدول الصغيرة هو الوسيلة الوحيدة التي ينالوا بها الفوز على فقراء العالم الاشتراكي وبعض الدول الفقيرة أيضا وبدأ التسابق الغربي على مصادر الطاقة والاستثمارات الأجنبية في بلدان العالم المختلفة وفي عالم ما بعد الاستعمار العسكري المباشر وهو العولمة، بأنه نهاية التاريخ والعالم، بحيث اكتسبت الثقافة العالمية في علاقات الدول الخارجية بعض التشوه وأرست أسساً تسيئ إلى قيم الحضارة والتعايش البشري في العلاقات الدولية، وكان الشمال اليمني التابع للرأسمالية مدعوماً إقليميا ودوليا في مواجهة العدو الاشتراكي (الجنوب) فوضعوا له بربوجاندا إعلامية ضد الشيوعية بواسطة الإسلاميين لغرض مقاومة وسحق الخصم. وعندما انهار الاتحاد السوفييتي عام 1990م، كان في ذهن الجنوبيين خيال الوحدة الطوباوية ما زال قائما. وبدأوا في مغامرة تطبيق الوحدة اليوتوبية، حتى بدون استشارة خبراء البلدان المتطورة التي كانت تقيم تحالفاتها أو تكتلاتها المختلفة على أسس علمية وبطريقة منهجية مدروسة، وبدأ الجنوبيون في العمل من أجل الوحدة الخيالية التي كانت تكرسها في ثقافتها الاشتراكية من أجل الوصول إلى نهاية التاريخ من باب الاشتراكية، النظام الشيوعي الذي سيسود العالم وتنتهي فيه الطبقات والتفاوت بين الدول والأفراد ويصل الناس إلى المساواة والعدل ويأكلون من طبق واحد وهم نيام ويعيشون في وئام. هذه النظرة السوريالية في العقل الجنوبي شجعته على المغامرة في الوحدة اليمنية. الوحدة شيء جميل وكانت حلماً في أذهان الجنوبيين، وكان يجب أن تتم بشروطها وأركانها، والتي من أهمها قناعة الإنسان بهذه الوحدة وهو ما يسمى بالوحدة الوطنية، ولكن باختلال هذه الشروط تحولت إلى قبح، وإذا انتفت الشروط ماتت الوحدة في قلوب الناس، وهنا تخلق الصعوبة لإعادتها ولو حتى بالحوار. الوحدة بحاجة إلى إعادة بناء مقدمات وشروط جديدة على أنقاض الدمار السابق ولا أعتقد أن الحوار يستطيع تقديم شيء لما فات. قامت الوحدة بدون أسس ولا دراسة ولا تقييم وبدون منهج علمي لإرسائها، وهذا هو الخطأ التاريخي الذي ما زال الناس يدفعون ثمنه، وكان الإخوان أتباع الرأسمالية في الشمال يرفضون الوحدة، لا لشيء ولكن لأنهم كانوا يخافون من أن تصيبهم عدوى الاشتراكية فيصبحوا كفارا جهارا نهارا في تصورهم، والأهم أن الشعبين في البلدين كانا تواقين للوحدة، وما إن قامت هذه الوحدة حتى سال لعاب البرجوازيين للتلذذ بالمزيد من حقوق إخوانهم، وازداد الأغنياء في السلطة والقبيلة غنى وازداد الفقراء الاشتراكيون فقرا، فجعلت المعاناة هؤلاء الفقراء يقرأون التاريخ ويتدبرون آياته، ثم لجأوا إلى الله بأن ينقذهم مما هم فيه. وقلب الإخوان البرجوازيون المصحف، وألهتهم الدنيا بترفها فأنستهم ذكر الله، وقلبوا ظهر المجن على إخوانهم الشيوعيين ونكثوا بالعهود، وتذكروا كلام الله في أذهانهم أن الوحدة أمر فرضه الله على جميع البشر. وأن الحرب شيء مقدس من أجلها، ليس في الشمال والجنوب فحسب بل حتى في الوصول إلى أمريكا بعد الفتح من جنات عدن من أجل أن يستظل العالم تحت دولة الخلافة العربية الإسلامية الواحدة لتظلهم دولة خلافة، كما كان عليه الرجل المريض الذي زاد الأمة الإسلامية مرضا إلى أمراضهم. بعد أن راجع الإخوة الاشتراكيون حساباتهم المبنية على الحلم والخيال، وجدوا أن وحدتهم الحالية كشجرة الزيزفون تزهر ولا تثمر، وبالزهر تبدو الصورة أجمل للمستفيدين فقط من الوحدة، وتبرر لهم شرعية الحديث بأنهم أصحاب الحق لأنه الأجمل بالتوحد انطلاقا من عظمة التوحد الذي نشدها الإسلام. مثل هؤلاء المتشبثين بالوحدة الذين يظهرون السمو والرحابة والسعة قد لا يصطلحون مع أبنائهم في داخل أسرهم إلا من باب الهيمنة والسيطرة ومصادرة حقوق الآخرين، لأنهم يطمعون بأكثر مما يستحقون ويتركون الناس في العراء، كما هي عندهم الوحدة هكذا، فهي عبارة عن شعار للابتزاز ولم تكن ممارسة وفعلاً وشراكة ومساواة وحقوقاً بين الناس من أجل الحياة والتعايش كما أرادها الخالق للمخلوق. وهكذا اكتشف الاشتراكيون أنهم تجاه وحدة هلامية تميعت ملامحها الحقيقية واختزلت في طاحونة الهواء الرأسمالية، وتكلست على خشبة المسرح الديني الذي يعد لمسرحية هزلية يشارك فيها بالنصيب الأعظم من النص الملهم في ثورة الخريف العربي. ماتت كل الأفكار الاشتراكية في أذهان الجنوبيين وأعادوا قراءة الواقع وحزموا أمرهم في تغييره، وهذا جرهم إلى التصالح والتسامح والتوحد في قضيتهم ورفض الحوار بهذه الطريقة، مشترطين -كما أوردنا من قبل- على مساعدة الجنوبيين لعقد مؤتمر (جنوبي جنوبي) يخرج بتمثيل موحد، وعلى ذلك يبدأ بحوار خاص بالقضية الجنوبية في البداية ومن ثم تكون الاستجابة لمتطلبات مخرجات الحوار. ومن هنا تبدأ تجربة تغيير الواقع كما بشر به بنيامين فرانكلين، الذي كان يعمل في الجيش الأمريكي، وهو (الذي اخترع مانعة الصواعق)، وحينما قال: إن الجص يساعد على خصومة التربة ونمو النبات، لم يصدقه أحد بل عارضوه بالجدال. لكنه ذهب إلى الحقل وكتب بواسة البذور مع الجص هكذا يصبح النبات بالجص، فكانت تجربته على الواقع مؤكدة بغير خيال عندما صار الزرع أكثر نموا وثمارا فلم يعد الواقع بحاجة إلى جدال، وهكذا تتغير الأفكار. فنحن بحاجة إلى تغيير الفكرة عند المستميتين على وحدة انتهت. لأن القفز على الواقع يجرنا إلى البقاء في أحلام الوهم وإلى الطوباوية من جديد. والوحدة حالة غير مادية يمكن إصلاحها ولن تصلح بيد أحمرية تنال عناية السماء. وعليه فليس كل من يتكلم باسم الوحدة وحدويا أو هو في درجة اعتبارية أعلى ممن يدعي باستعادة الدولة الجنوبية، فالعبرة في الحقوق والكرامة الإنسانية التي يعيشها الإنسان في الوحدة أو في الدولة وهي الأهم، والأهم جدا النظر إلى الواقع في الجنوب، وليكن تغيير الأفكار متماهيا معه من خلال التالي: - أن العلاقة بين الشمال والجنوب يجب أن تبقى علاقة إنسانية وأخوية وعلاقات تبادل ولا يعني أنها علاقة وحدة؛ لأن الوحدة التي تأخذ من حقك وكرامتك ليست وحدة بل هي استعباد ومظالم الجنوب كبيرة إلى حدود أنها تبشر بعدم الاستقرار في حالة استمرارها. - كان الجنوب يعول منذ بداية الوحدة على شراكة تزيد من قيمة الإنسان وكان يعول أيضا على المثقفين والمناضلين واليساريين لكن هناك من انبرى منهم يصف الجنوبيين المطالبين بحقوقهم بأنهم انفصاليون أو قرويون ومناطقيون، واتضح أن منهم من تمسك بالأوثان، ولم يغادر مربعه وينهض من مرقده. - ما حدث منذ بداية الوحدة إلى الآن دمر كل المؤشرات الأولية لاستمرار الوحدة ولن يستطيع أحد أن يعيد الأمل في الوحدة الخيالية أو وحدة حقيقية. - أخيرا نتمنى من الإخوة في مؤتمر الحوار أن يناقشوا قضايا الشمال ويتركوا قضية الجنوب حتى يتدبروا أنها بحاجة إلى حوار خاص بها وبالشروط التي يطلبها الشعب الجنوبي لأن المحاورين المحسوبين على الجنوب لا يستطيعون تقرير مصير الجنوب مهما تمنطقوا أو تخندقوا. وليعلم الكل أن القرار الأول والأخير للشعب الجنوبي وهو النافذ لحل القضية الجنوبية، ولو حكم عليه بالفناء ومن معرفتنا بهذا الشعب فإنه لن يحيد عن أهدافه ومبادئه.. نسأل الله الهدى والسداد.