بات من الواضح أن دولة جنوب السودان قد تراجعت كليا عن اتفاق التعاون المشترك الذى تم توقيعه بين الرئيسين عمر البشير وسلفا كير فى أديس ابابا فى 27 ديسمبر الماضى. وأكبر دليل على ذلك تراجعها عن اعتبار منطقة الميل 14، منطقة منزوعة السلاح بعد ما كان قد تم الاتفاق بين الرئيسين على اعتبارها كذلك، بل أن جوبا استبعدت كل الاتفاقات الأمنية التى نص عليها اتفاق التعاون المشترك، وشرعت فى إطلاق الاتهامات بأن الخرطوم هى التى تعرقل تنفيذ الاتفاق. وقد ظلت الحكومة السودانية طوال العامين الماضيين تتحلّى باستمرار بقدر واضح من المرونة السياسية وإبداء الرغبة فى التفاوض، وظلت الرئاسة السودانية توافق دون تحفظات على عدم ممانعتها فى عقد قمم رئاسية فى جوبا أو أديس أبابا بشأن حلحلة الخلافات بين الجانبين، إلا أنه على ما يبدو أن صبر الخرطوم آخذ فى النفاد وذلك لأن المفاوضات بما تحويه من قضايا خلافية ليست فى حد ذاتها أمراً يدعو للضيق ونفاذ الصبر، ولكن السلوك الجنوبى الممعن فى التحامل على السودان وإيذائه سوءاً عبر دعم ما يسمى بالجبهة الثورية أو عبر اضطرابات الحدود واعتداءات الجيش الشعبى الجنوبى باستمرار على مواطنين سودانيين يجعل الخرطوم تفكر جيداً فى البحث عن كافة الخيارات، فقد كان أمل الخرطوم أن تسهم اتفاقية التعاون المشترك ليس فقط فى حلحلة النزاع الناشب، ولكن فى رسم فضاء مثالى جديد لعلاقات الدولتين مِلؤُه التعاون والاستقرار الأمنى ليتيح ذلك تقدماً ونهضة لكليهما. إن أكثر ما ينغِّص على السودان هو أن تظل حدوده المشتركة مع جوبا فى حال اضطراب وتضطر الخرطوم دائماً لوضع قواتها فى حال تأهب. كما أن الحدود بين الدولتين تعج مصالح مهمة واستراتيجية لمواطنى الدولتين، لا سيما الرعاة وأصحاب الماشية، وهى كلها أمور تستلزم قدراً من الشعور بالمسئولية لتفادى الاحتكاكات والتوترات. إصرار جوبا على عدم التقيد بهذه الحقائق على الأرض يثير سخط الخرطوم ويجعلها دائماً فى حالة بحث متواصل عن حل. ومن جهة ثانية يشعر السودان -من خلال شواهد وأدلة قاطعة- أن جوبا ليس لها كثير اهتمام لا بحلحلة القضايا الخلافية، ولا بالبحث عن استقرار بين الدولتين. جوبا تراهن على إسقاط الحكومة السودانية ضمن خطة إستراتيجية كبيرة تشاركها فيها جهات خارجية معروفة. وعلى هذا الأساس فإن السودان رغم علمه بهذا المدى البعيد من النوايا الجنوبية بذل مجهوداً شاقاً لحث جوبا على طى صفحة الخلاف ولانتزاع أى ذرائع منها، ولكن ما تزال جوبا على موقفها بعد كل هذه السنوات والمياه الكثيرة التى جرت من تحت الجسر. فالقضية هنا بمثابة قضية خصوم قدامى لم يكتفوا بأخذ ما حصلوا عليه من دولة ولكنهم يبحثون عن وسيلة لهدم الدولة الأم بأى وسيلة من الوسائل وأخذ غالب أجزائها بحجج تاريخية واهية. إذن وصول الخرطوم إلى قناعة سياسية معلنة من المؤكد أنه موقف يستلزم اتخاذ مواقف أخرى ناجمة عنه، فإن كان الهدف الجنوبى ينزع نحو تجميد النزاع إلى حين انقضاء المهلة الأفريقية 3 أشهر ومن ثم الدفع بالملف باتجاه مجلس الأمن، فهذا يقتضى تدابير من جانب الخرطوم ربما شرعت فيها فورا. وإن كان الهدف الجنوبى يتجه باتجاه إشعال حرب ربما كانت ضرورية لتسخين النزاع؛ فإن الخرطوم أيضاً عليها أن تستعد، ففى السياسة وحدها هناك دائماً الخيارات الأسوأ التى ما من مواجهتها بُد.