هو أذكى من كل الأطراف والقوى التي اختارته رئيساً، أو "توافقت" عليه رئيساً للإطاحة بسلفه.. لكنه يريد أن يكون الأقوى، ولن يقبل بدور أقل من رئيس الجمهورية.. قرارات مجلس الأمن الدولي.. تلميحات، وتصريحات المبعوث الأممي جمال بن عمر، كلها تصب في مصلحة الرئيس عبد ربه هادي.. من يعترض على قراراته، من يحاول عرقلة خطواته، من يدَّعي فضلاً عليه أو وصاية، سيكون تحت طائلة العقوبات الدولية، ومغضوباً عليه من عواصم الدول الراعية للتسوية "التوافقية".. الغرب، وواشنطن تحديداً تقيَّم الرئيس هادي على أنه أهم مكاسبها من "ثورات" الربيع العربي.. يدرك الرئيس هادي بأن واشنطن - و"غربها" الأوروبي المطيع– لا تفرط بمكاسبها بسهولة، وهنا يكمن ذكاء الرئيس هادي بأن جعل من نفسه أفضل خيارات واشنطن، والجوار الخليجي لقيادة بلد مضطرب مثل اليمن مهدد بالسقوط بين "براثن" المتصارعين على السلطة، والقوة، والنفوذ، والثروة.. بعد جولته الأخيرة في أميركا، وأوروبا، والسعودية لم يعد الرئيس هادي مجبراَ على مهادنة أطراف التسوية الراهنة، ولم يعد مخنوقاً من قبل "صناع" الأزمات في بلده.. يقول دبلوماسي غربي في صنعاء بأنه بات على الرئيس هادي أن يقرر وحسب. واشنطن باتت أكيدة من أن "التمديد" للرئيس هادي لبضع سنوات ضرورة تفرضها مصالحها في اليمن امتداداً لمصالحها في هذه المنطقة المهمة من العالم.. منذ سنوات عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر، عبرت واشنطن عن رغبتها في إحداث تغيير يطاول "جمهوريات" الشرق الأوسط، وحتى ممالكها الحليفة إن لزم الأمر، فتحت أبواب الحوار مع كل القوى الوطنية الراغبة في التغيير، استنتج خبرائها، وممثلوها في تلك الحوارات "السرية" أن "التيارات" الإسلامية هي الأقوى تأثيراً وتنظيماً في تلك "الجمهوريات" العربية المتهاوية، وكان "الأخوان المسلمون" في المقدمة.. لم تجد واشنطن بداً من التحاور مع "الأخوان المسلمون" سراً، وعلانية في السنوات الأخيرة.. أكد الدبلوماسي الغربي، وأضاف متسائلاً ولم لا، نعم ولم لا تتحاور أكبر دولة في العالم مع التيار الأقوى، والأكثر تنظيماً وتأثيراً لخدمة مشروعها "التغييري" في أنظمة تلك الجمهوريات القائمة على أسس رخوة من القمع، والتضليل، وينخرها الفساد، وما دامت واشنطن تعمل على حماية "إمبراطوريتها" العالمية من خطر "الإرهاب" القادم من الشرق، ومن دول طالما وعدت وأخلفت، وكثيراً ما مارست "ابتزازها" ولم تفلح في تجنيبها تكرار ما حدث في الحادي عشر من سبتمبر. واشنطن اتخذت القرار، وحسمت أمرها يضيف الدبلوماسي الغربي، ولأنها امتلكت كل وسائل الضغط، وإمكانية التغيير في أنظمة "الجمهوريات" العربية "كأولوية" ملحة في الزمن الراهن، فقد عقدت العزم وانتظرت لحظة الصفر.. عبثاً حاول حكام تلك "الجمهوريات" المتهاوية إقناع واشنطن على التراجع.. قدموا خيارات التغيير الذاتي أو الفوضى.. حاولوا تقديم ضمانات "مهدئة" لواشنطن "الجريحة" من هجمات الحادي عشر من سبتمبر، والموجوعة في كرامتها وهيبتها ما دامت حراب "الإرهاب"، وسهام تنظيم "القاعدة" موجهة صوبها. في اليمن قدم الرئيس السابق علي عبد الله صالح لواشنطن التسهيلات التي تطلبها لضرب "القاعدة" ، وفي السنوات الأخيرة كان صالح يطلب أكثر مما يعطي، ليس أقسى على واشنطن "الجريحة" الغاضبة من أن يُطلب منها ثمناً لضرب عدوها مهما كان حجم الطلب تافها.. في مطلع العام الماضي زارت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون صنعاء، كانت مهتمة بمحاورة معارضي صالح أكثر من "الاستماع" إلى صالح ومسئولي حكومته.. كيف يمكنكم إحداث تغيير في اليمن يتيح لنا دعمكم لإنجازه، سألت كلينتون زعماء المعارضة في اجتماع عقدته معهم في مبنى السفارة الأميركية المحصن من التنصت، والاختراق الأمني للحكم.. الرسالة لا تحتاج إلى المزيد من التوضيح في وقت كانت "ثورة" الربيع العربي أطاحت بالرئيس بن علي في تونس، والغليان مبتداه يلوح في مصر.. سألت كلينتون أكثر مما أجابت على أسئلة محدثيها، ثم أوكلت لسفيرها جيرالد فيرستاين الحصول على الإجابات.. حين قُدمت لكلينتون قائمة بالأحزاب المنضوية في تكتل "اللقاء المشترك" وضعت أكثر من خط تحت حزب التجمع اليمني للإصلاح الذي وضعت أمامه عبارة بين قوسين (إسلامي معتدل من تيار الأخوان المسلمين، والقبائل). وحيث يؤكد الدبلوماسي الغربي بأن السفير جيرالد لم يكتف بالإجابات على أسئلة وزيرة خارجية بلاده من أحزاب "المشترك" مجتمعة، حرص على أن يحصل على إجابات منفردة من كل حزب على حده، إذ تبدو المقارنة هنا مهمة بين الإجابتين.. كانت وثائق موقع (ويكيلكس) المسربة من دهاليز أجهزة واشنطن السرية كشفت عن معلومات خطيرة حصلت عليها الدوائر الأميركية من خلال اتصالاتها مع مختلف القوى السياسية، والقبلية، والعسكرية في الحكم والمعارضة، بالإضافة إلى معلومات جمعتها من مصادر قريبة من مؤسسة الرئاسة، والحزب الحاكم، واتفقت كل تلك المعلومات على أن نظام حكم الرئيس صالح يتهاوى، وينخره الفساد، وعاجز عن إدارة الأزمات مع خصومه، وأن صالح منشغل في السنوات العشر الأخيرة من حكمه ب"توريث" الحكم لنجله العميد أحمد علي عبد الله صالح قائد الحرس الجمهوري (القوة الأكبر تسليحاً وتدريباً وتنظيماً في مؤسسة الجيش)، أكثر من انشغاله بإدارة شئون البلد، ووضع حلول جذرية للأزمات المتراكمة مع قوى المعارضة، وعدم اكتراثه بمواطن الفساد الذي تضرب أطنابه كل مفاصل الدولة.. بينت وثائق (ويكيلكس) سخط وتذمر القريبين من صالح، وعلى درجة متساوية مع رأي معارضيه المتذمرين أصلاً. وبعد سقوط نظام الرئيس مبارك في مصر بفعل "ثورة" ال25 من يناير، شعر الرئيس صالح بالخطر المحدق به، وأن عدوى "ثورات" الربيع العربي باتت تهدد أركان حكمه.. في مطلع فبراير العام الماضي بادر بوعود "تغييرية" تلبي مطالب معارضيه أو جلها، غير أن الوقت أزف، ولم يعد هناك وقت متاح للمناورة، ومع اندلاع الاحتجاجات الشبابية، والتظاهرات الشعبية في ساحات وميادين العاصمة صنعاء، ومعظم المحافظات في منتصف فبراير المطالبة برحيل صالح وإسقاط نظامه، كانت واشنطن، وحلفاؤها في المنطقة، وأوروبا يُعدون الترتيبات لسيناريو إزاحة صالح وتحديد البديل الذي يمنع "مؤقتاً" وصول "الإسلاميين" للسلطة بشرعية "ثورية"، ويجنب اليمن الانزلاق للفوضى، والحرب الأهلية التي تثير قلق الجوار الخليجي، وقد تعرقل جهود واشنطن في حربها على تنظيم "القاعدة" الذي بات يسيطر على محافظات عديدة جنوباليمن. وخلال الأزمة منذ اندلاعها ضد حكم صالح، مروراً بتداعياتها السياسية، والأمنية، والعسكرية وقف نائب الرئيس (آنذاك) عبد ربه منصور هادي على مسافة واحدة من كل الأطراف، ولما عجز صالح عن قمع الاحتجاجات المناوئة لحكمه، وفشلت قوى المعارضة في الإطاحة به على غرار ما جرى في مصر (ومن غير المستبعد وجود دور أميركي / سعودي / أوروبي في هذه وتلك) خرجت المبادرة الخليجية بتسوية سياسية نصت على تشكيل حكومة "توافق" وطني مناصفة بين المعارضة، والحكم برئاسة المعارضة لمرحلة انتقالية مدتها عامان، وينتخب هادي رئيساً توافقياً للبلاد، على أن يتنحى الرئيس صالح عن السلطة في مقابل منحه وكل من عمل معه خلال فترة حكمه حصانة قانونية من قبل "البرلمان" من أي ملاحقة قضائية. نجح صالح في الحصول على "الحصانة" والخروج الآمن من السلطة، والإبقاء على حزبه شريكاً أساسياً في حكومة "التوافق"، ونقل السلطة لنائبه، وعدم منعه من ممارسة العمل السياسي في إطار الحزب الذي أسسه قبل نحو 30 عاماً ليدير به حكم البلد، ونجحت أحزاب وقوى المعارضة ممثلة بأحزاب "اللقاء المشترك" في إجبار صالح على التنحي وإسقاط مشروع توريث الحكم، والشراكة في مرحلة التغيير كطرف قوي، ومؤثر في اتخاذ القرار، في حين أحرز الرئيس هادي النجاح الأكبر في الوصول إلى كرسي الحكم الذي كان قريباً منه ولم يتطلع إليه يوماً، وتثبيت شرعيته بإجماع كل الأطراف، وعبر انتخابات رئاسية مبكرة، بإجماع دولي، وإقليمي، ودعم أممي غير مسبوق لرئيس يمني من قبل. ولعبت واشنطن دوراً مهماً، وحاسماً لمصلحة الرئيس هادي خلال كل مراحل الأزمة اليمنية.. يشير الدبلوماسي الغربي إلى أن هادي التقط رسالة واشنطن بسرعة ودون تعقيد لجهة المقابل الذي ترغب في الحصول عليه، لدعمه بقوة، وتوفير الحماية الكافية له، وتمرير مشروع "تمديد" فترته الرئاسية.. ومنذ تسلمه مهام رئيس الجمهورية أبدى تجاوباً كاملاً مع رغبة واشنطن في الحصول على مزيد من التسهيلات الأمنية والعسكرية لضرب أهداف تنظيم "القاعدة" في اليمن، وتوفير الحماية الكافية لدبلوماسييها، وفرقها المكلفة بملاحقة "القاعدة"، بالإضافة إلى حماية عملائها التي زرعتهم في معظم المناطق، والمحافظات النائية التي ينشط فيها التنظيم "الإرهابي".. وافق الرئيس هادي على تنفيذ رغبات واشنطن، لم يشترط الحصول على مطالب كما دأب سلفه، غير أن واشنطن استعدت عبر سفيرها في صنعاء، وموفديها تقديم ما يمكنها لجعل الرئيس هادي مسيطراً على كل مفاصل الدولة، ومؤسستها العسكرية والأمنية، ومتمكنا من اتخاذ القرار الذي يفك عنه محاصرة الأطراف السياسية، والعسكرية، والقبلية في الداخل، وممسكاً بأوراق حل الأزمات الداخلية وفي مقدمها "القضية الجنوبية" ومسألة "الحوثيين" في صعده، والحفاظ على توازن القوى بين أطراف التسوية الراهنة الذي يمنع "تيار الإسلام السياسي" من الاستحواذ المطلق على السلطة -كما حدث في تونس ومصر- ولا تؤول أوضاع اليمن إلى ما آلت إليه في ليبيا، وبحيث يمكن بقية التيارات السياسية من المشاركة والتأثير في القرار السياسي، ولعب دور في تحقيق "التغيير" الذي سيفرز ملامحه مؤتمر الحوار الوطني الشامل الذي تسعى واشنطن، ومعها الدول الراعية للتسوية الراهنة لأن تكون نتائجه وفقاً للخط الذي سيرسمه له الرئيس هادي. واشنطن التي لا تخفي سعادتها بمدى التعاون الذي أبداه معها الرئيس هادي لجهة حصولها على تسهيلات تمكنها من خوض الحرب على "القاعدة" في اليمن، وفرض ما يشبه "الوصاية" على شئون الداخلية، لن تتردد في منح الرئيس هادي القوة، والحماية، والأهم من ذلك "التمديد" لسنوات حكمه على اعتبار أنه بات أهم مكاسبها من "ثورات" الربيع العربي، ولعلها لن تعجزها المبررات طالما وأطراف التسوية في حاجة إليها للضغط على بعضها، وفي حالة تصعيد وعداء دائم.. وهنا يكمن ذكاء الرئيس هادي حين يمم وجهه صوب واشنطن التي بيدها مفاتيح الحلول، ومغالقها، فعاد كما قال بنتائج ممتازة على كل الأصعدة، ووعد اليمنيين بلمس نتائج جولته الأخيرة في أميركا، وأوروبا، والسعودية قريباً. *رئيس تحرير صحيفة الغد الاسبوعية