تاريخ النشر : 2013-02-17 هدير الضمير كريم يونس في رثاء والده: عرض وتعليق !! ياسين السعدي كنت أتصفح جريدة (دنيا الرأي) الإليكترونية مساء السبت بتاريخ 2613013م عندما قرأت مقالاً بعنوان: (عميد الأسرى كريم يونس في رثاء والده) فتابعته بتمهل كبير واهتمام خاص. أما كريم يونس فهو المناضل الفلسطيني من آل يونس الكرام، أخوال العم المرحوم أسعد كمال السعدي، من قرية عارة المغتصبة في المثلث. وهو عميد الأسرى في المعتقلات الإسرائيلية. فقد أمضى أكثر من ثلاثين سنة حيث اعتقل في السادس من كانون الثاني سنة 1983م، ومنذ ذلك التاريخ وهو نزيل الزنازين والسجون الإسرائيلية ينقل من زنزانة إلى أخرى ومن معتقل إلى معتقل؛ ومع ذلك ظل كريم شامخاً بالروح المعنوية العالية منذ اعتقاله. كثير من الأسرى والمعتقلين مروا بالتجربة ذاتها أو ما يشبهها، ولكن كريم، حسب معرفتي المتواضعة، هو من أول الأسرى في المعتقلات الإسرائيلية، إن لم يكن أولهم من يرثي أباه بكلمات معبرة اختار أن يصوغها في قالب شعري مما يسمونه الشعر الحر، وينشرها في وسائل الإعلام. مرت بنا أسماء كثير من الشعراء رثوا أنفسهم كمالك بن الريب الذي كان شقياً فرجع إلى الله وصار من أنصار الدعوة فقال: ولمّا تراءتْ عند مَروٍ منيتي ***** وخلَّ بها جسمي، وحانتْ وفاتيا أقول لأصحابي ارفعوني فإنّه ***** يَقَرُّ بعينيْ أنْ (سُهَيْلٌ) بَدا لِيا فيا صاحبَيْ رحلي دنا الموتُ فانزِلا ***** برابيةٍ إنّي مقيمٌ لياليا أقيما عليَّ اليوم أو بعضَ ليلةٍ ***** ولا تُعجلاني قد تَبيَّن شانِيا وقوما إذا ما استلَّ روحي فهيِّئا ***** لِيَ السِّدْرَ والأكفانَ عند فَنائيا وخُطَّا بأطراف الأسنّة مضجَعي ***** ورُدّا على عينيَّ فَضْلَ رِدائيا خذاني فجرّاني بثوبي إليكما ***** فقد كنتُ قبل اليوم صَعْباً قِياديا وقد كنتُ عطَّافاً إذا الخيل أدبَرتْ ***** سريعاً لدى الهيجا إلى مَنْ دعانيا ومن الواضح أن كريم يونس كان يسير على منهاج هذا الفارس العربي المسلم والمقدام في ثباته على المبدأ وتلبية نداء الواجب، ولذلك تحتفظ به إسرائيل وبمن يسير على منهاجه من الأسرى؛ لأنها لا تريد له ولأمثاله أن يعودوا إلى الميدان، ولأن شعار مالك بن الريب يستقر في أعماق ضميره: وقد كنتُ عطَّافاً إذا الخيل أدبَرتْ ***** سريعاً لدى الهيجا إلى مَنْ دعانيا ومن الشعراء من فقد ولده فرثاه كما قال ابن الرومي في رثاء ابنه الأوسط: ألا قاتل الله المنايا ورَميَها ***** من القوم حبّاتِ القلوب على عَمد توخَّى حِمام الموت أوسط صبيتي ***** فللّه كيف اختار واسطة العِقد؟ على حينَ شِمتُ الخير من لمحاتِهِ ***** وآنستُ من أفعاله آية الرشد طواه الردى عني فَأضحى مزاره ***** بعيداً على قربٍ قريباً على بعد لقد أنجَزَتْ فيه المنايا وعيدَها ***** وأخلَفَتِ الآمال ما كان من وعد أما أبو ذؤيب الهذلي فكانت مصيبته أكبر فقال يرثي أبناءه الخمسة: أودى بنيَّ وأعقبوني غصٍّة***** بعد الرقاد وعبرة لا تقلع ُ سبقوا هواي وأعنقوا لهواهم ***** فتخرموا، ولكل جنب مصرعُ فغبرتُ بعدهم بعيش ناصب *****وإخالُ أني لاحق مستتبعُ ولقد حرصتُ بأن أدافع عنهم***** فإذا المنيةُ أقبلتْ لا تدفعُ وإذا المنية أنشبت ظفارها *****ألفيتَ كل تميمة لا تنفعُ فالعين بعدهم كأن حداقها***** سملت بشوك؛ فهى عور تدمعُ ومن الشعراء من رثوا إخوتهم كدريد بن الصمة: فما راعني إلاّ الرّماح تنوشه ***** كوقع الصّياصي في النّسيج الممدّدِ فإن يك عبد الله خلّى مكانه ***** فما كان وقّافاً ولا طائش اليدِ قليل التّشكّي للمصيبات حافظٌ ***** مع اليوم أدبار الأحاديث في غدِ وهوّن وجدي أنّني لم أقل له: ***** كذبتَ، ولم أبخل بما ملكت يدي ومن الشواعر من رثين إخوتهن، كالخنساء في رثاء أخيها صخر مما يعد من أبلغ المراثي الشعرية: يُذَكّرُني طُلُوعُ الشمسِ صَخراً***** وأذكرُهُ لكلّ غُروبِ شَمْسِ ولَوْلا كَثرَة ُ الباكينَ حَوْلي ***** على إخوانهمْ لقتلتُ نفسي وما يَبكونَ مثلَ أخي ولكِنْ***** أعزّي النَّفسَ عنهُ بالتَّأسي فلا واللهِ لا أنساكَ حتَّى***** أفارقَ مهجتي ويُشقَّ رمسي فقَدْ وَدّعْتُ يوْمَ فِرَاقِ صَخْرٍ ***** أبي حَسّانَ لَذّاتي وأُنْسِي فيا لهفي عليهِ ولهفَ اُمّي ***** أيصبحُ في الضَّريحِ وفيهِ يمسي ورثا كثير من الشعراء زوجاتهم في القديم والحديث، كجرير في العصر الأموي، والشاعر المصري الكبير محمود سامي باشا البارودي: لا لوعتي تدعُ الفؤادَ، ولا يدِي ***** تَقْوى على ردِّ الحبيبِ الغادي يا دهرُ! فيم فجعتني بحليلةٍ! ***** كانت خُلاصةَ عُدَّتي وعَتَادِي فإذا صحوت فأنتِ أول فكرتي ***** وإذا غفوت فأنت آخر زادي والشاعر العراقي المعاصر، عبد المعين الملوحي، في رثاء زوجته المحبوبة بهيرة، والشاعر السوري الكبير نزار قباني، في رثاء زوجته زليخة وغيرهم كثيرون. أما فارسنا وشاعرنا كريم يونس، فهو يرثي والده ويتحسر لأن أباه انتقل إلى رحمة الله بينما كريم أسير في المعتقل، لا يستطيع أن يشارك في تشييع جنازة أبيه، ولا أن يكون قرب سريره عندما لفظ أنفاسه الأخيرة وأسلم الروح إلى باريها. يقول كريم يونس: اعلم انك انتظرتني وقد طال انتظارك اعرف انك انتظرت وانتظرت وانتظرت. ثلاثين عاما انتظرت وتحملت وحاولت حتى لم تعد .... فرحلت. كلمات فيها العمق، وفيها التسليم بالقضاء والقدر. كلمات ذات تعبير صادق تخرج من ضمير متفجع ومتوجع، ولكنه شجاع متماسك يؤمن بقضاء الله وقدره حيث يقول: ثلاثون عاما كنت ترجو فخاب رجاؤك. كنت تدعو رب السماء أن يسمع دعاءك آه يا رب السماء... الله يا رب العباد أهو القدر؟ إنه يؤمن بالقضاء والقدر، وأن الموت حق، وهو نهاية كل حي، وإن كان يرجو أن يرى أباه قبل موته. يتألم لأنه تأخر عن العودة مبكراً. وهل كان بمقدوره أن يعود مبكراً أو متأخراً ولم يعد؟ إنه الاحتلال الظالم الذي لا يسمح بهذه اللفتات الإنسانية الكريمة يا كريم. هل كنت تتصور أن يخرجوك من زنزانتك لكي تقوم بإلقاء النظرة الأخيرة على أبيك؟ يكثر كريم الطلب من والده أن يسامحه متهماً نفسه بالتقصير بحق أبيه إلى درجة اتهامه لنفسه بأنه خذل والده؛ مع أنه في الحقيقة لبى نداء الواجب كما علمه أبوه: سامحني يا أبت وقد خارت قواك وما كنت قربك سامحني لأني وعدتك، لأني خذلتك ولأني أنا من كسرتُ ظهرك سامحني لأني تركت الموت يسبقني إليك لكنه لم يخذل والده بل يعبر كريم نفسه عن بره بأبيه ومآثر أبيه عليه: هل نسيت أن ما من أحد كتب لي مستقبلي سواك هل نسيت أنك قدري ومنبع عزتي ولا أحد سواك فأنت من علمتني التاريخ ورسمت لي خارطة الوطن السليب أنت من عرفتني وحفرت في ذهني علامات الطريق أنت من حفَظتني ولحَنتَ لي أنشودة الشعب المهجر أنت من كشفت لي هويتي المزيفة ومنحتني هويتي وأرشدتني وأضأت لي درب العطاء وهل هناك فارس أصيل ذكر أباه وعدد فضله وأشاد بعطائه أكثر وأبلغ مما أشاد كريم بفضل أبيه؟ يا كريم يا من تحمل اسماً على مسمى: أنت لم تخطئ لكي تطلب مسامحة أبيك، رحمه الله، بل اطلب الرحمة له من خالقه، واسأل الله أن يفك أسرك وأسرى الحرية من أمثالك؛ لكي يعودوا إلى وطن كريم يا كريم، يشتاق أن يشم رائحة أنفاسكم الزكية كما تشتاقون إلى لثم ترابه. ختام كلمتك يا كريم هو الأكثر بلاغة والأوفى وفاء: ترفق يا ملك الموت ترفقْ ترفق بأعز الناس عليَّ ترفقْ إنا لله وإنا إليه راجعون !! مع تقديرنا الذي مهما كان كبيراً فإنه يعجز عن التعبير الصادق الذي تحفظه قلوبنا لك ولكم جميعاً أيها الأسرى الأحبة والأسيرات الماجدات، ورحمة الله على أبيك وعلى كل الآباء الذين ينجبون مثل هؤلاء الأبناء الأوفياء لآبائهم وذويهم ولأوطانهم. نشرت في جريدة القدس يوم الأحد بتاريخ 1722013م؛ صفحة 44 [email protected] متصفحك لا يدعم الجافاسكربت أو أنها غير مفعلة ، لذا لن تتمكن من استخدام التعليقات وبعض الخيارات الأخرى ما لم تقم بتفعيله. ما هذا ؟ Bookmarks هي طريقة لتخزين وتنظيم وادارة مفضلتك الشخصية من مواقع الانترنت .. هذه بعض اشهر المواقع التي تقدم لك هذه الخدمة ، والتي تمكنك من حفظ مفضلتك الشخصية والوصول اليها في اي وقت ومن اي مكان يتصل بالانترنت للمزيد من المعلومات مفضلة اجتماعية