عبد العليم محمد يكمن تفرد وتميز أي خطاب سياسي في قدرته علي التعبير عن مشكلات الواقع, والاقتراب منها بقدر ما تسمح به الظروف التي تحيط بالخطاب, وكذلك مصداقية هذا الخطاب وصدقيته. وإذا ما سلمنا جدلا بصحة هذه المعايير لنجاح الخطاب السياسي والحكم عليه وتقويمه, فإنه بمقدورنا أن نصيغ مقاربة لتقويم خطاب الإسلام السياسي في مصر بعد الثورة, ذلك الخطاب الذي تتبناه قوي الإسلام السياسي في مصر التي تتخذ من الإسلام مرجعية حاكمة لها. وهذا الخطاب الإسلامي يعني به مجموعة المفاهيم والأفكار والمقترحات والتصورات لحل مشكلات المجتمع المصري الراهنة, ومعالجة علاقته بالماضي, وعلاقاته بالمستقبل, وكذلك العلاقات التي تربطها بجوارها الإقليمي وبالعالم أيضا. وتنصرف هذه المفاهيم التي ينتظمها الخطاب الإسلامي السياسي إلي معالجات مشكلات المجتمع المصري والدولة بعد ثورة25 يناير عام2011, تلك التي تلخصت علي نحو واضح لا لبس فيه من خلال الشعارات والمطالب التي رفعتها الثورة, ألا وهي الدولة المدنية والعدالة الاجتماعية والحرية والديمقراطية. وفيما يتعلق بالدولة, المدنية فإن هذا المفهوم في الخطاب الإسلامي السياسي ينصرف إلي الدولة التي لا يحكمها العسكريون, والمقصود هنا اختزال المفهوم في المقابلة بين المدنيين والعسكريين وقصر المعني المقصود بالدولة المدنية والدولة العسكرية علي هوية القابضين علي زمام الأمور في الدولة وطبيعة الزي الذي يرتدونه; اللباس المدني والزي العسكري, وليس علي طبيعة القوانين والمبادئ والأسس التي تميز بين الدولة المدنية والدولة العسكرية, ولا شك أن هذا المعني للدولة المدنية يبرئ المدنيين من النزوع إلي التسلط والاستبداد, فهم بطبعهم أي المدنيين لا يحملون جينات الاستبداد, علي عكس أقرانهم من العسكريين الذين يجنحون بطبعهم إلي الاستبداد والتسلط. ولا شك أن اقتصار مفهوم الدولة المدنية علي حدود التمييز بين المدنيين والعسكريين يتأسس علي ملائكية المدنيين وشيطنة العسكريين في حين أن الواقع بتجاربه وخبراته يتجاوز هذه الثنائية التبسيطية, من ناحية أخري, وذلك هو الأهم فإن هذا الفهم للدولة المدنية في الخطاب الإسلامي السياسي يستند في العمق إلي مقولة أن الدولة الإسلامية هي مدنية بطبيعتها; ذلك أن الإسلام لم يعرف لاهوتا أو كهنة كما كان الحال في الكنيسة الغربية الأوروبية, ولا شك أن عدم وجود لاهوت أو كهانة في الإسلام بعكس الحال في أوروبا في العصر الوسيط, لا ينفي استناد الحكم في الدولة الإسلامية إلي الدين وعلماء الدين المقربين من الحاكم لتأكيد مشروعية الحاكم الدينية, باعتباره أميرا للمؤمنين. ولأن أي خطاب بما في ذلك خطاب الإسلام السياسي- لا يوجد منفردا بل يوجد في حقل للخطابات والمواقف الأيديولوجية المتنافسة والمتنازعة حول القضايا المختلفة, يحاول جميعها الاستحواذ علي وعي المواطنين وطرح الحلول والتصورات حول المشكلات المجتمعية, فإن تأكيد خطاب الإسلام السياسي علي مدنية الدولة في الإسلام يستهدف الرد علي الخطابات المدنية الأخري للقوي السياسية الوطنية حول الدولة المدنية وانتزاع هذه الفكرة أي فكرة الدولة المدنية من هذه القوي. أما العدالة الاجتماعية في أفق خطاب الإسلام السياسي فلا تمثل سوي عودة إلي مجتمع السلف الصالح في صدر الدعوة الإسلامية, ويحوطها التخوف من الإساءة والتنكر لهذه الصورة فهي تتأسس علي الزكاة والصدقة والهبات والأوقاف, وتتنكر لكافة الإنجازات الاجتماعية والإنسانية لمفهوم العدالة الاجتماعية باعتباره حجر الزاوية في الاستقرار والسلم الاجتماعيين, ولا يزال هذا الفهم للعدالة الاجتماعية يراوح بين الصورة الأولية للعدالة في صدر الدولة الإسلامية, وبين مكتسبات هذا المفهوم الحديث في الفكر السياسي والاقتصادي والاجتماعي الحديث, ولا تعني هذه المراوحة بالتأكيد المفاضلة بينهما, بقدر ما تعني ثبات الصورة الأولية للعدالة الإسلامية, مع إدراك حجم المشكلات وردود الأفعال التي قد تنجم عن قصر المفهوم علي صورته الإسلامية الأولي, وعدم قدرة هذه الصورة علي الاستجابة لمطلب العدالة الاجتماعية كما طرحته الثورة, أو للتعقيد المرتبط بها. وفي حين يركز الخطاب الإسلامي علي الأخلاق والهوية فإنه يتجاهل المسألة الاجتماعية ومطالب الفئات الاجتماعية المختلفة وتبني هذا الخطاب في الاقتصاد عقيدة الاقتصاد النيوليبرالي, الذي يعتمد علي إطلاق حرية المشروع الخاص والخصخصة وتحرير التبادل التجاري وتشجيع الاستثمارات, أي في المجمل يتبني عقيدة رأسمالية متطرفة في رأسماليتها لأنها تعتمد علي الزواج بين السلطة والمال ويقدم النظام القائم نفسه باعتباره تعبيرا عن مختلف مكونات الرأسمالية المصرية بما فيها تلك المكونات التي تنتمي للنظام السابق. ولا شك أن لجوء النظام لسياسة الاقتراض من البنك الدولي ينطوي علي مضاعفات كثيرة تحول دون تحقيق العدالة الاجتماعية, والاستجابة للمطالب العمالية والاجتماعية غير القابلة للتأجيل والمساومة, من بينها إجراءات التقشف, وخفض الدعم, والمزيد من الخصخصة, ودفع العمال نحو البطالة وهي بعض البنود التي تتضمنها روشتة البنك الدولي للإصلاح الاقتصادي والتي فشلت في إخراج الدول من دائرة التخلف بل ومسئولة عن عدم الاستقرار السياسي في تلك البلدان. لن يكون بمقدور الحكومة والنظام الحالي فتح الطريق أمام العدالة الاجتماعية دون إعادة توزيع الثروة والأعباء والانحياز للبسطاء والمنتجين من العمال والفلاحين بل وتحديد حد أقصي لملكية وسائل الإنتاج وآخر للثروة العقارية, وعدم تخلي الدولة وانسحابها من التزاماتها الاقتصادية والاجتماعية. أما فيما يتعلق بمجال الحريات العامة والخاصة والديمقراطية, فالخطاب الإسلامي السياسي ينزع نحو الاستكبار والاستقواء بالأغلبية التي حصل عليها في ظروف ما بعد الثورة, والتي تميزت بالانشقاق والانقسام, وافتقاد أرضية التنافس النزيه والمتكافئ وتحديد القواعد والمبادئ التي تؤطر المجال العام, حيث يعتمد هذا الخطاب علي مفهوم للأغلبية, يجعل منها وصية علي المجتمع, ومفوضة باسمه لتحديد الصواب والخطأ, والحقيقة والكذب, والسلوك الصالح, والسلوك الطالح, وكأن الشعب الذي شكل هذه الأغلبية لا يحق له مراجعتها, وتقييم أدائها, ومعرفة ما إذا كانت هذه الأغلبية التي منحها أصواته تترجم عمليا وواقعيا تطلعاته وأهدافه. وقد أفضي خطاب الحرية والديمقراطية الإسلامي إلي نسج خيوط جديدة للتسلط والاستبداد وإعادة إنتاجهما في الدولة والمجتمع تحت شعار جديد إسلامي هذه المرة, حيث تم وضع الدستور والاستفتاء عليه من قبل الشعب في ظل انقسام واضح واستقطاب خطير, ودون توافق مجتمعي, يؤمن له أي للدستور المنعة والحصانة والاتفاق, وتضررت فيه ومنه حقوق فئات عديدة في المجتمع, وحصن الرئيس المنتخب نفسه بصلاحيات غير مسبوقة في مواجهة القانون والقضاء والإعلانات الدستورية السابقة علي توليه الحكم, وكأن إزاحة المجلس العسكري من المشهد السياسي بالسهولة التي تم بها قد منحته قوة مضافة في مواجهة الشعب تخول له الاستحواذ مع جماعته علي مفاصل الدولة, وكأن الحريات التي يتحدث عنها الخطاب هي للحزب الذي ينتمي إليه الرئيس والجماعة التي خرج من أحشائها والمنتمين إليها. ولا شك أن هذا الخطاب مفارق للواقع بتعقيده وتطلعاته, خاصة بعد الثورة, حيث لا يزال المجتمع المصري في حالة ثورية ويعاني من مشكلات خطيرة من بينها القصاص للشهداء والضحايا, وتحقيق العدالة الاجتماعية والحرية, وما لم يعترف النظام بوجود هذه المشكلات وما لم يقم بتشخيص لهذه المشكلات, والاعتراف بها فإن الأزمة الراهنة مرشحة للتفاقم.